فلسطين أون لاين

تقرير أسامة الجماصي.. الناجي الذي عاد من قوائم الموتى فاقدًا عينيه

...
الشاب الفلسطيني أسامة الجماصي فقد بصره بالكامل منذ الأيام الأولى للحرب بعد أن اخترقت شظايا القصف عينيه
غزة/ محمد الأيوبي:

في صباح ما يزال محفورًا في ذاكرة أسامة الجماصي، استيقظ الشاب الغزي على واقعٍ لم يكن يتخيله يومًا: عتمة كاملة لا تنقشع، وشاش يغطي وجهه المحطم، وأصوات متقطعة تحاول أن تشرح له أن حياته قبل 19 ديسمبر/ كان الأول 2023 لن تعود كما كانت.

أسامة، ابن حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، خرج بحثًا عن الأمان بعد اجتياح قوات الاحتلال الحي في الخامس من ديسمبر، لكنه وجد نفسه بعد أيام في قلب لحظة ستُفقده ما لم يكن يظن أنه سيفارقه: البصر.

رحلة النزوح

يروي أسامة أنه غادر حي الشجاعية مع عائلته بعد الاجتياح في 5 ديسمبر 2023. "نزحنا مثل باقي السكان، منطقة بعد أخرى، إلى أن اخترنا الذهاب إلى بيت أقاربنا في حي التفاح، شارع يافا"، يقول بصوتٍ خافت يختلط بالتنهيدة.

لكن في 19 ديسمبر، اخترق صاروخ إسرائيلي منزلًا مجاورًا، ولم يكن بينه وبين الانفجار سوى فناء ضيق. لم يدرك أسامة ما حدث؛ كل ما شعر به كان شظايا الموت وهي تمزق وجهه وتحمل معها النور من عينيه إلى غير رجعة.

تعرض أسامة لإصابة بالغة طالت كامل ملامح وجهه؛ فقد حطم الانفجار فكه وأنفه، ومزق عينيه بالكامل حتى تفريغهما من الداخل، وخلف جرحًا قطعيًا عميقًا في جبينه، إضافة إلى كسر في جبهة الرأس وشرخٍ في الجمجمة، في مشهدٍ يلخص عنف اللحظة التي انتزعت منه بصره إلى الأبد.

نُقل أسامة إلى مجمع الشفاء الطبي الذي كان بالكاد قد أُعيد تشغيله بعد انسحاب قوات الاحتلال منه، بعدد قليل من الأطباء والممرضين. يقول بصوت منخفض: "وضعوني على الأرض ست ساعات… كان مبدأ التفاضل هو اللي يحكم: هل المريض يستحق تدخلًا، أما يترك إلى أن تفارق روحه الجسد؟"

كان الأطباء يعتبرون أسامة من الحالات التي لا آمل بشفائها. بقي غائبًا عن الوعي ثلاثة أيام، ولم يعرف إلا لاحقًا من والده أن اسمه كان مدرجًا فعليًا ضمن قوائم الموتى.

العودة من حافة الموت

بعد ساعات طويلة، لفتت حالة أسامة انتباه أحد الأطباء إذ رأى أن الدم يتجمع في معدته ويخرج من فمه، دون وجود نزيف داخلي خطير، فأعطاه حقنة أوقفت النزيف، ثم وضعه على سرير داخل المستشفى، في محاولة أخيرة لإنقاذ حياته.

مكث أسامة عشرة أيام في مستشفى الشفاء، قبل أن يستعيد وعيه، كان أول سؤال طرحه: "وين أنا؟ ليش مش شايف؟ ليش الدنيا عتمة؟" لم يجرؤ الأطباء على إبلاغه الحقيقة دفعة واحدة. قالوا إن هناك إصابة في العينين وإن عليهم الانتظار "24 ساعة" لمعرفة الوضع. شيئًا فشيئًا بدأت الحقيقة تتكشف أمامه، لكنه يقول إنه استقبلها بما ألهمه الله من صبر: "قلت الحمد لله… لله الأمر من قبل ومن بعد".

أسامة ليس مجرد جريح في سجل الحرب؛ إنه الابن الوحيد بين ثماني بنات، وقد فقد شقيقته في الحرب ذاتها. يقول بألم: "مشاعري كانت صعبة… لكن شعور والدي كان أصعب. كنت أفكر فيه أكثر من نفسي".

بعد فقدانه بصره، بات أسامة يعتمد على الآخرين في أدق تفاصيل حياته: الحركة، الطعام، وحتى الخروج الاضطراري تحت القصف. "كنت أشعر أنني عبء… فوق العبء اللي على الكل"، يضيف.

أمنية واحدة

اليوم، يعيش أسامة حياةً تتكرر فيها الأيام بصمتٍ ثقيل. لا مصدر دخل، ولا استقرار، ولا قدرة على الوصول إلى منزله الواقع خلف ما يسمى بـ"الخط الأصفر"، على بعد 2.5 كيلومتر فقط من السلك الفاصل. "بيتنا الوحيد اللي واقف بالمنطقة… ومع هيك مهدد بالإزالة"، يقول بأسى.

التنقل المتكرر يرهقه، والخوف من مغادرة المكان قسرًا يلازمه: " الحياة كلها ضغوط نفسية… وفي أي لحظة ممكن نغادر المكان من جديد"، يصف واقع الحياة تحت تهديد النزوح المتكرر.

لكن أمنية أسامة اليوم بسيطة: أن يسافر للعلاج في الخارج. يقول: "أتمنى يفتح معبر رفح… هناك دول رائدة في طب العيون مثل أمريكا، ألمانيا، الهند… حلمي أرجع أشوف ولو بعين واحدة، لأعود أساند أبي، وأقف مع أهلي وأصدقائي في أفراحهم وأحزانهم".

ورغم كل ما فقده أسامة، لا تزال جذوة الحياة متقدة داخله: "طول ما الإنسان موجود… في حلم وفي حياة"، يختم حديثه.

المصدر / فلسطين أون لاين