في بيت شبه مدمر بمدينة غزة، يتطاير الفرح من عيني الشابة نسمة النبيه ونبرة صوتها، وسط أهلها الذين سرقت منهم حرب الإبادة الجماعية أعز ما يملكون، وأعادت ابنتهم إليهم الابتسامة، بحصولها على معدل 99.4% بالثانوية العامة.
كان هذا المعدل شبيها بما تحققه نسمة في أعوامها الدراسية السابقة، لكنها لم تتوقعه بعد ظروف لا إنسانية فرضتها عليها الحرب على مدار سنتين، من الفقد والنزوح القسري والتشريد والتجويع وقصف المدارس.
تقول نسمة، الحاصلة على المرتبة الأولى على مدينة غزة في الفرع العلمي، لـ "فلسطين أون لاين": "حصلت على هدا المعدل بمعية رب العالمين، وتاني حاجة جهود أهلي.. هم كانوا الداعم الأول الحمد لله، وفروا جو مناسب رغم كل هاي الظروف: انقطاع الكهرباء والإنترنت، الدمار، النزوح، الفقد، العياط، التعب، والتوتر.. كل شيء، هم اللي ساندوني".
تتبادل نظرات الفخر مع ذويها، مؤكدة أن لدى أهل غزة يقينا ورغبة في التعلم ورفضا للاستسلام. "النجاح بيسري في عروقنا ودمنا.. إحنا زي العنقاء بنطلع من تحت الركام وبنوقف على رجلينا"، تضيف نسمة.
ورغم الفرح، يبقى في قلب نسمة وجع لا يهدأ، فقد فقدت طفلي أختها: أحمد ورشا، الذين استشهدا خلال حرب الإبادة، قائلة عنهما: "كنت متمنية يشاركوني هالفرحة، بس الحمد لله هم في مكان أحسن".
كما استشهد خلال الحرب زوج أختها الذي كانت تعده أخا، يدعمها لإكمال "مشوار التوجيهي". وأصيبت والدتها من جراء قذيفة إسرائيلية في أحد محطات النزوح القسري.
كانت العائلة تنزح من مأوى لآخر في شمال القطاع، رافضة التوجه إلى جنوبه، الذي زعم الاحتلال أنه "آمن" واستهدف فيه النازحين.
عن تلك المعاناة، تقول الشابة: "ما نزحنا من شمال قطاع غزة، كنا ننزح من مكان لمكان في الشمال.. وصلنا مجمع الشفاء الطبي اللي كان أصلا لا يصلح للعيش. بالنهار نطلع، وبالليل ننام في مكان بيغسلوا فيه الكلى".
بيت على "الخط الأصفر"
تشير نسمة بيدها إلى الدمار المحيط بها على مقربة مما يعرف بـ"الخط الأصفر" المحدد بموجب المرحلة الأولى من اتفاق وقف حرب الإبادة، مبينة أن بيتها شبه المدمر يقع ضمن مربع سكني دمره الاحتلال بالكامل، لكن العائلة لا تزال تسكن فيه.
وتتابع: "كانوا يطلعوا الشهداء من جنبنا، والأشلاء وصلت لبلكونة البيت.. بس الحمد لله قدرنا نواصل.. شوية تعب على شوية دعاء".
ثم تبتسم بصلابة وهي تصف الحياة في مكان قريب من تواجد جيش الاحتلال: "بيتنا اليوم على الخط الأصفر.. ليلة ما اخترق الاحتلال الهدنة (بعد أيام من دخولها حيز التنفيذ)، الوضع كان كأنه حرب، القصف جنبك، واليهود مش فارقة معهم خط أصفر أو لا.. بيلاقوا مكان فيه حياة بيقصفوه، بس إحنا عايشين على الأمل.. بنقلب الألم أمل".
تعليم بين التحديات
كانت دراستها قصة كفاحٍ يومي، يتخلله قطعها مئات الأمتار بحثا عن الإنترنت تحت النار، لتحميل المقاطع التعليمية بصعوبة، ومتابعتها ليلا بعد نيام الأطفال، حيث كانت تقيم أكثر من عائلة في غرفة واحدة.
تضحك نسمة بخفة وتقول عن معدلها: "طول عمري باخد 99% وكمان 100%، بس مع الظروف اللي مريت فيها توقعت يقل معدلي، لكن ربنا أعطاني أكثر مما أتوقع. حتى لو أضل طول عمري أشكره، لا يكفي".
تفكر نسمة الآن في التخصص الذي ستلتحق به، وتميل إلى الطب، لتساعد شعبها. ولا تكترث بأي تحديات قد تعترض طريقها في الجامعة، رغم التدمير الواسع للمؤسسات التعليمية.
تختم حديثها بابتسامة: "اللي عنده طموح ما بيصعب عليه إشي، زي ما واجهنا التوجيهي بنواجه اللي أصعب منه، وأهل غزة هيك مجبولين.. الواحد ما بيستسلمش. الغاية مش بس أنك توصل لنهاية الطريق.. الغاية انك حتى لو متت تكون ماشي عليه".

