*وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ*﴾ {الأنفال60
غزة، القلب الصامد الذي يخط بدمائه أعظم فصول البطولة، حيث لا يُقاس النصر بالعدد أو العدة، بل بالإيمان والتضحية والإرادة التي لا تُقهر. في ظلمة الليل، يرابط شبابها بين الأنفاق والمدن المخبأة تحت الأرض، يطوّعون الحجر والصخر بصبر ومهارة، يصنعون سلاحهم بأيديهم، ويزرعون الأمل في كل رصاصة، وكل نفق محفور. نخبة من العلماء والمجاهدين، تركوا حياة الرفاهية والراحة ليكونوا جسراً للنصر والحرية، يقاتلون بلا كلل حتى الشهادة، حاملين القرآن في قلوبهم ومواجهة المحتل في ساحات القتال. غزة التي تتلو القرآن وتقاوم بالإيمان، تبعث فينا درس الصبر والثبات، وتجسد سنة الله في الأرض: أن النصر حليف من أعد نفسه بإخلاص وعزم لا يلين.
غزة، إعداد قبل 7 أكتوبر، طف بها ليلاً من رفح حتى السلك الزائل في بيت حانون ومن البحر للسلك الشرقي الزائل، ستجد نقاط رباط لشباب مسلح يرابطون طوال الليل ومنهم صاحب جدول رباط نهاري. وحالما يممت شطر المواقع حيث دورات تدريب عسكرية على مدار الساعة، ومنها للطلائع والفتوة. وحال قدر الله لك أن تنزوي باطن الأرض، ستجد مدينة كاملة للأنفاق حفرها شباب مؤمن مجاهد بأظافرهم وعظام شهدائهم، ومئات منهم ارتقوا شهداء وهم في مهام الحفر المقدسة.
داخل عديدها، تجد ورش التصنيع التي تطور سلاحًا خاصًا بالمقاومة من صواريخ وأسلحة بأنواعها من طائرات مسيرة وبنادق وقنابل وعبوات وصواريخ. وتجد فرق التطوير المؤهلين بأعلى الدرجات العلمية والمهنية، حتى كانت غزة الملهمة تصنع سلاحها وتقدم نموذجًا استثنائيًا في زمن الغثائية والردة العربية. وأيضًا منهم مئات ارتقوا شهداء وهم في ورش التصنيع والإعداد.
هؤلاء الذين شقوا هذا الدرب الصعب في الصخر بأظافرهم وعظامهم ليسوا على قارعة طريق البشرية، بل يشقون لها طريقًا للعز متحررًا من سطوة يهود وإفسادهم. وهم بتأهيل علمي نوعي وعالي، وفرص حياة وعمل عالية، ومنهم من يملك جنسية دولة أجنبية، درس فيها وكان يعمل أستاذًا جامعيًا بأعلى الرواتب والدرجات. هم نخبة مجتمع آثروا أهلهم وفلسطينهم ومستقبل أولادهم في وطن محرر من رجس الاحتلال وجعلوا من أنفسهم جسراً، وهتافهم: "نحن الجسور وجيل النصر يعبرها".
وهم الذين في كل شهرين أو ثلاثة يخوضون معركة وجولة تصعيد مع الاحتلال فيخرجون له من نقطة صفر، يقاتلون حد الشهادة: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} التوبة 111. فكانت غزة كلها في تدريب ميداني مفتوح على مدار الساعة في مدارسهم ومواقعهم وفي مناراتهم، وفي محطات النزال التي واجه بها المحتل.
وفي غزة، تطوف على مراكز التحفيظ ومجالس القرآن والمساجد حيث ترى صورة ثانية مكملة ومشرقة لحفظ كتاب الله، حيث الدواوين للحفاظ وتثبيت الحفظ وللأئمة، وهم بالآلاف المؤلفة. بل وتعلم القرآن للعالم بمئات الآلاف عبر المقرأة الإلكترونية، وقد شاهدهم العالم عبر صفوة الحفاظ الذين سردوا القرآن في جلسة واحدة قبل طوفان الأقصى بأيام، وهذا مشهد آخر للإعداد.
كل هذا من ساهم في نشأة غزة التي ترونها، غزة الصغيرة جغرافيا، المنبسطة المحاصرة والمحتلة لعقود، المستضعفة والمسكينة، التي تقف لسنة عصرة كاملة في مواجهة حرب إبادة عبر البث المباشر. ويخرج شبابها من نقطة صفر، ومن أنفاق حفروها بأظافرهم، ويلتحمون مع دبابات المحتل المحصنة حد الشهادة تمزقًا، ويذيقون عصابات الإجرام والقتل بأسهم، فيقتلون منهم المئات.
وبهم ومعهم تتحقق سنة من سنن الله عز وجل، بأن النصر ليس لعدد ولا عدة، وإنما هو من عند الله عز وجل، حيث الإعداد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} الأنفال 60.

