لم يعد العدوان الإسرائيلي مقتصرًا على ميادين القتال في غزة، بل تجاوز حدوده ليطال قلب العواصم العربية، حيث تُدار المفاوضات السياسية. ففي سابقة خطيرة، شنّ سلاح الجو الإسرائيلي غارات على العاصمة القطرية الدوحة، أمس الثلاثاء، في محاولة مدروسة لاغتيال قادة بارزين من حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بينهم أعضاء في المكتب السياسي ووفد التفاوض مع الاحتلال.
ورغم فشل هذه المحاولة ونجاة الوفد المفاوض، إلا أن الرسالة الإسرائيلية بدت واضحة: لا فرق بين مقاتل في الميدان وقائد سياسي على طاولة الحوار. فالمفاوض في نظر الاحتلال امتداد للمقاتل، والعملية السياسية ليست سوى جبهة أخرى من جبهات الحرب.
خليل الحية.. سيرة مقاوم مثقلة بالتضحيات
من بين أبرز المستهدفين، يبرز اسم الدكتور خليل الحية، رئيس حماس في غزة ورئيس الوفد المفاوض للحركة. الرجل الذي وُلد عام 1960 ونشأ في بيئة مشبعة بروح المقاومة، شغل عدة مناصب قيادية داخل الحركة، من بينها نائب رئيس حماس في غزة وعضو المجلس التشريعي المنتخب عام 2006، ومسؤول ملف العلاقات العربية.
ومع استشهاد يحيى السنوار قبل نحو عام، تولى الحية قيادة الحركة في غزة، ومعها مسؤولية ملف المفاوضات مع الاحتلال. لكن بالنسبة له، المفاوضات ليست مسارًا دبلوماسيًا منفصلًا، بل امتداد للميدان: معركة بالكلمة والورقة لا تقل خطورة عن الخنادق.
الحية دفع أثمانًا شخصية باهظة؛ فقد نجا من محاولة اغتيال عام 2014 حين قُصف منزله واستشهد أفراد من عائلته، كما فقد أبناءه واحدًا تلو الآخر.
في العدوان الأخير استشهد نجله همام، لينضم إلى شقيقيه اللذين ارتقيا في عامي 2008 و2014، فضلًا عن عدد من أحفاده. هذا التاريخ الشخصي الملطخ بالدماء يضع الحية في الصف نفسه مع عامة الفلسطينيين، الذين يدفعون من عائلاتهم ثمن بقائهم وصمودهم.
القيادة كتجربة جماعية لا نخبوية
تجربة خليل الحية ليست استثناءً داخل حركة حماس أو غيرها من فصائل المقاومة، فمعظم قادة الصف الأول عاشوا التجربة ذاتها: استشهاد الأبناء، هدم المنازل، النفي والاعتقال، وهذه السيرة المشتركة تجعل القيادة الفلسطينية حالة فريدة في المشهد العربي؛ فهي ليست نخبة بعيدة عن معاناة الناس، بل امتداد طبيعي لها.
لهذا يرى الفلسطينيون في قادتهم انعكاسًا لتجربتهم اليومية، فالقيادة هنا ليست امتيازًا يحصّن صاحبه، بل تضحية تكبّله بالمصير الجماعي ذاته، من هذه النقطة بالذات، تستمد قيادة حماس شرعيتها الشعبية وعمق ارتباطها بالقاعدة الجماهيرية.
محاولة اغتيال تكشف حدود الوساطة
استهداف قادة الوفد المفاوض في الدوحة فتح أيضًا بابًا على البُعد الإقليمي. فالدوحة لم تكن مجرد مكان عابر للاجتماع، بل هي عاصمة الوساطة الأولى في ملف غزة، إلى جانب القاهرة. ضربها يحمل رسالة بأن الوساطة نفسها لم تعد محصّنة، وأن الاحتلال لا يعترف بأي حصانة سياسية أو دبلوماسية.
إنها رسالة أرادت تل أبيب من خلالها القول: قادة المقاومة سيبقون أهدافًا أينما كانوا، حتى لو جلسوا على طاولة تفاوض تحت رعاية دولية. وهو ما ينسف من الأساس مفهوم الوساطة الذي تبني عليه قطر ومصر جهودهما منذ أشهر طويلة.
وحدة المسار والمصير
في هذه السلسلة من الاستهدافات، يتجسد ما يسميه الفلسطينيون "وحدة المسار والمصير". فالقائد السياسي الذي يجلس على طاولة التفاوض ليس بعيدًا عن الجراح التي تصيب أبناء شعبه. خليل الحية الذي فقد أبناءه وأحفاده، ورفاقه الذين فقدوا منازلهم أو عائلاتهم أو عاشوا الاعتقال، يجسدون هذه الوحدة.
المفاوضات بالنسبة لهم ليست مخرجًا سهلًا، بل جبهة أخرى من جبهات المقاومة. وهذا ما يفسّر إصرارهم على التمسك بثوابتهم: وقف العدوان، الانسحاب الكامل، وتبادل الأسرى.
كما أن المشهد الأخير في الدوحة أعاد تكريس حقيقة يعرفها الفلسطينيون جيدًا: القيادة ليست منصبًا، بل مسؤولية وتضحية. القادة في حماس وفصائل المقاومة يدفعون من دمهم وأبنائهم وأمنهم الشخصي الثمن ذاته الذي يدفعه عامة الشعب. وهذا ما يمنحهم في نظر جمهورهم شرعية مضاعفة وثقة راسخة، تجعلهم أقرب إلى الناس وأكثر قدرة على تمثيلهم.
وبينما فشلت محاولة الاغتيال في الدوحة، فإنها سلّطت الضوء من جديد على معادلة عميقة: الاحتلال لا يرى فرقًا بين المقاتل والمفاوض، والقيادة الفلسطينية ليست بمنأى عن المصير الجماعي لشعبها، بل تجسيد حيّ له.

