فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

**وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصطَبِر عَلَيها* … طه: 132

*مدارج الصابرين في غزة*

مدارج الصابرين في غزة هي محطات نحتتها أقدار محرقة تتقد بلا هوادة، حيث كل لحظة تحمل ألمًا جديدًا، وكل ساعة تحكي مأساة تتجدد على الأرض والقلوب؛ من جوع وعطش ودمار، إلى شهداء وجرحى يتساقطون كالأمطار، والبيوت تتحول إلى ركام، والأحبة يصبحون ذكريات وأخبارًا في فضاءات الألم اللامتناهية.

هذه الصورة الأسطورية للصبر ليست قدرة بشرية عادية، بل إرادة إلهية تصقل غزة على مر عقدين من الزمن، تُسلم وتُرضى، فتتحول المحن إلى صفاء روحي ومناعة لا تُقهر. غزة تنتقل من فاجعة إلى أخرى، وكل مرة يرتفع منسوب الصبر، وترتقي النفوس إلى مراتب لا يبلغها إلا من صبروا بصدق، مؤكدة أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. بهذا الصبر التراكمي، تصنع غزة أسطورة اللاهزيمة، مؤمنة بأن في الاختبار خير خفي، مجددة النية لله بصدق القلب، ومتوكلة على وعده العظيم بأن الصابرين لهم أجر بلا حساب، وأن الفرج آتٍ لا محالة، فـ"قل عسى أن يكون قريبًا"، في ظل يقين لا يلين.

مدارج الصابرين هي محطات تحول غزة عبر أحداث ووقائع محرقتها. كل لحظة وساعة تحمل شأنًا وخبرًا ومصابًا، والتطورات اليومية تتسارع ميدانيًا وسياسيًا واجتماعيًا ومعيشيًا وأمنيًا. غزة تعيش أزمات متجددة ومركبة؛ حيث عليك أن تعايش الجوع والعطش والمرض والدمار، والشهداء والجرحى بالمئات في الطرقات. البيوت أمامك تتحول إلى ركام فوق ركام، والنيران تلتهم كل شيء، والأحبة يصبحون أخبارًا؛ كل لحظة خبر عن حبيب أو صديق ارتقى بنفسه أو مع عائلته أو جزء منها. عليك ألا تتوقف لمصاب أو خبر، فحجم المصاب مهول.

"الصبر من شعب الإيمان"، وهو أطول باب في كتاب البيهقي، حيث أُصلّ إلى 550 حديثًا وأثرًا عن الصبر. ومن أبرز ما ورد: "الصبر شطر الإيمان" (رواه مسلم)، أي نصف الإيمان. وقال تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" (البقرة: 45). وكان النبي ﷺ إذا أصابه مصاب، يصلي ويقول: "إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها" (رواه مسلم). وبشر النبي ﷺ من فقد صفيه، حيث ورد عن رب العزة: "لعبدي إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا فصبر واحتسب، ما له جزاء إلا الجنة" (رواه البخاري).

وقال ﷺ أيضًا: "والصبر عند الصدمة الأولى" (رواه البخاري). ومن بشرى النبي ﷺ: "من يصبر يصبره الله، ولم تُعطَ عطاء أفضل وأوسع من الصبر" (رواه مسلم). وقال تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" (الزمر: 10). وإذا مات ولد العبد، بشر النبي ﷺ بقوله: "أما يسرك أن يفتح لك أحد أبواب الجنة الثمانية؟" (رواه مسلم).

الصلاة ليست مجرد فرض على العبد، بل هي معراج روحي يُصلح النفوس ويقوي الإرادة، وهي السلاح الروحي الذي يمنح المؤمن القدرة على الصبر في أحلك الظروف. أمر الله تعالى نبيه ﷺ بأن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، يجمع بين الالتزام بالعبادة والتحمل، فالصلاة تجعل القلب رطبًا بذكر الله، والروح متصاعدة نحو سماء الطمأنينة، فتتحول المحن إلى اختبار تصقل فيه النفوس وتعلو بها فوق اليأس. في غزة، حيث تتوالى المحن والفواجع، تتحول الصلاة إلى درع يقي من الانكسار النفسي، ومرساة تمنح الأمل، وواحة سلام وسط العواصف. كل ركعة، وكل سجدة، وكل دعاء فيها، تعزز قدرة الإنسان على الصبر، وتجعل الصبر صبرًا لا يلين، مدعومًا بيقين أن الله مطلع على كل ألم، وأن الجزاء العظيم للصابرين لا يُعد ولا يُحصى. فالصلاة هي المحطة التي ترفع مستوى الصبر من مجرد تحمل إلى مستوى الإيمان الراسخ بالقدر الإلهي واليقين بالفرج المنتظر.

وكان النبي ﷺ الأشد ابتلاءً والأكثر صبرًا، فقد خاض الملاحم والغزوات، ومات أبناؤه الذكور قبل أن يبلغ أحدهم السنة الثانية، والإناث جميعًا في حياته عدا فاطمة رضي الله عنها، وكان يوعك كما يوعك رجلان من الناس. وقال ﷺ: "ومن مرض، يحط الله من سيئاته كما تحات ورق الشجرة في الخريف" (رواه البخاري). وفي كل ما يصاب به المؤمن من بلاء، هناك كفارة، حتى الشوكة التي تصيبه كفارة.

المحنة والصبر عليها هما عملية تصفية وتنقية، حيث قال الله تعالى: "وما يزال الله يبتلي عبده بما يكره حتى يبلغ المنزلة" (رواه البخاري). وفي يوم الحساب، يود أهل العافية لو أن جلودهم قُرضت بالمقاريض من عظيم أجر أهل الابتلاء، كما ورد في الأثر: "ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا". وقال النبي ﷺ أيضًا: "إذا مرض العبد، يرسل الله ملكين، تسجل ما يقول لعواده، ويتعهد ربنا عز وجل لعبدي إن توفيته، الجنة" (رواه مسلم). وفي الأثر أيضًا: "إذا رأيت المكروه، تذكر المدفوع". وقال ﷺ: "ولولا مصائب الدنيا، قدمنا إلى الله مفاليس". وأفضل العبادة في هذه الأوقات هي: انتظار الفرج.

من هنا تنشأ صورة الصبر الأسطوري التي يراها من يراقب غزة من خارجها، كأنها خارج الطاقة البشرية والقدرة الإنسانية. لكنها في الحقيقة إرادة الله تعالى أن يصنع غزة على عينه، عبر محطات صبر تراكمي على مدار عقدين من الزمن، لتصل إلى حالة من تقبل البلاء برضا وتسليم واطمئنان: "إن هذا لهو البلاء المبين"، مع القتل والدمار والموت والمرض والجوع والحصار.

هكذا، كانت غزة حالة مستعصية على الكسر والهزيمة والتردد والانكسار، حيث لا خيار، والمناعة التراكمية التي أوصلت الحالة إلى اللاهزيمة، لا نفسيًا ولا ماديًا. غزة تتنقل من مصاب لمصاب أكبر، ومن واقعة إلى فاجعة، وفي كل مرة يرتفع منسوب الصبر: "إنما الصبر بالتصبر"، و"الصبر عند الصدمة الأولى"، لتصل إلى معاني غير مسبوقة من الصبر والترقي في مدارج الصابرين، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).

لا تتوقف غزة عن معايشة المحرقة باعتبارها اصطفاء، وفيها من جوانب الخير الكثير ما لا نعلمه. وفي كل ذلك، لا ننسى أن نجدد النية لله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162)، وأن نلتزم الصلاة "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" (طه: 132)، وأنتظروا الجزاء من الله عظيم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10). وأيضًا، نجدد الثقة بالله عز وجل باليقين الجازم أن الله تبارك وتعالى "جاعلًا لغزة فرجًا ومخرجًا": {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء: 51).

المصدر / فلسطين أون لاين