فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

‏﴿وَهُزّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ﴾         مريم25

في ملحمة غزة، تتجلى حكمة "اعقلها وتوكل" في أبهى صورها، فها هم رجالها يقتدون بهتاف النبي صلى الله عليه وسلم ويترجمون حديثه في الإتقان فعلًا، في مشهد تتكامل فيه الإدارة بالإيمان، والتخطيط باليقين، والعمل بالاتقان، فالجهاد عندهم ليس فقط بندقية، بل عقلٌ يقدّر الموقف، ويقرأ العدو، ويصبر على الجراح، ويأخذ بالأسباب كما أمر الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، وهي القوة التي تهزّ جذوع النصر كما هزّت مريم النخلة، رغم الوهن، رغم الجوع، رغم الألم. فغزة اليوم لا تركن لمجرد العاطفة، بل تسير بسنة {فأتبع سببا}، تدفع الثمن عن وعي، وتُوقف النار حين يجب، لا ضعفًا، بل رحمةً بأهلها وتقديرًا للحاضنة، وتشتد حين يقع الاجتياح، لا عبثًا، بل بثبات العارف أن الأرض التي نُكبت ستُطهَّر، وأن العدو الذي اجترأ سيدفع الثمن، فهؤلاء رجال لا يتغيرون، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا يهنون، لا يضعفون، لا يستكينون، لأنهم على موعد مع وعد لا يتخلف: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}.

اعقلها وتوكل، هتاف النبي، ومن حسن العمل الإتقان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه". وفقًا لأصول العمل الإداري، فإن الجودة والتحسين المستمر من أساسيات النجاح، مع الأخذ بالأسباب كما جاء في الأمر الشرعي: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} الأنفال 60، وهي من سنن الله تعالى. ومن ذلك ذروة سنام الإسلام (الجهاد)، الذي يحمل في جوهره التضحية بالنفس والولد والمال والبيت، كما يجري اليوم في ليالي ويوميات محرقة غزة الظالمة، مما يستدعي دائمًا "تقدير الموقف" من المقاومة ورجال غزة الأباة وأهلها، بالأخذ بالأسباب، وامتثالًا للحكمة "فأتبع سببا"، وسيرًا وفق سنة الله الماضية: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} مريم 25. فكما أصاب مريم عليها السلام الوهن وأُمرت بهز النخلة، كذلك تصيب غزة المحن والقتل والتدمير، ومع ذلك فإنها لا تضعف ولا تستكين: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ} آل عمران 146، ولذلك فعليها أن تأخذ بالأسباب وتعد العدة، وهذا ما يفعله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الأحزاب 23.

وفي صميم هذا الثبات، ينبع التوجيه الإلهي الخالد: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} الأنفال 60. هذه القوة ليست مجرد ذخيرة أو سلاح، بل عقل راجح، وخطة محكمة، وصبر على الشدائد، وأخذ بالأسباب، وتحرك محسوب في الأرض التي يتعرض لها العدو. فغزة اليوم، في بيت حانون والشجاعية والزيتون وخانيونس، تهيئ القوة بأبهى صورها، من التخطيط المسبق، والتموضع الاستراتيجي، والمناورات الدقيقة، وصولاً إلى ضرباتٍ موجعة تزلزل العدو، وتؤكد أن من يتحدّى شعبها سيجد نفسه يواجه إرادة لا تلين، وعقلًا يقيس كل خطوة، وقوة تُجهز على الدوام لكل احتمال. إنّها قوة تتجسد في الإتقان، وهي القوة التي تجعل كل عملية ملحمة، وكل مواجهة درسًا في الصمود والمقاومة، وكل رصاصة وضربة وسلاح جزءًا من وعد لا يتبدل: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} الإسراء 8.

ومن ذلك أيضًا، القدرة على قراءة سلوك العدو وعصابات الإجرام وتحركاته ومساحته وغايته، وهو أمر تؤكده اعترافات قادة عصابات الإبادة وخبراء التحليل والدراسة، إذ أصبحت تحركات وخطط العصابات مكشوفة، مما يمكن المقاومة من تقديرها والتكيف معها وتطوير أدائها وفق مسارها. وهذا ما يفسر تعاظم المقاومة وزيادة قدرتها على إيلام المحتل مع الأيام، وليس العكس، مما يشكل هزيمة نفسية قبل أن تكون ميدانية لعصابات الإجرام.

ومن ذلك أيضًا، مطلوب دائماً تقدير الموقف فيما يتعلق بمدى قدرة الحاضنة الشعبية على الصمود، والسعي لدفع الضرر عنها قدر المستطاع. وربما كان هذا العامل الأهم في تقديم تنازلات تحمي شعبنا، ولا يُدرك البعض أن المقاومة توقفت عن العمليات في بعض المناطق، ليس لعجز أو ضعف، وإنما تقديرًا للجغرافيا التي تتحرك فيها، ومستوى الضرر الذي قد يلحق بالمجتمع وأهل غزة. ومن الملاحظ أن المقاومة تشتد في المناطق التي تعرضت لاجتياح سابق، وما الشمال وشرق خانيونس والشجاعية واليوم عملية رفح البطولية عنكم ببعيد. فقد سُحقت بالكامل مكونات العمل الفدائي المقاوم على يد عصابات الإبادة، لكنها لم تستسلم، بل اشتد بأسها وتؤلم عدوها، إذ إن الضرر قد وقع، والرسالة بتدفيع العدو الثمن لا تزال قائمة، وقاعدة العمل تمضي وفق قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} مريم 25.

المصدر / فلسطين أون لاين