فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

﴿*حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ*﴾
(يوسف: 110)

 *ملحمة الصبر والنصر*

في قلب غزة، حيث تشتعل النار تحت أقدام أهلها، لا يُعدّ الثبات خيارًا بل هو منحة ربانية تهطل على القلوب الصادقة كغيثٍ من السماء. في اللحظة التي تَوشك فيها القلوب أن تنفطر، وتتكاثف فيها الظنون بالله، تمضي غزة على درب المؤمنين الأوائل: ثابتة حين يتزلزل الآخرون، صابرة حين يفرّ المحيطون، مفشلة مخططات الإبادة والتهجير والتجويع بسلاح الصبر والدموع.

في سنة المحرقة الأولى، كانت فئة قليلة في الشمال، مرابطة صامدة، تكسر ظهر المؤامرة، وأخرى في الجنوب تثبت أن الخلاص لا يتحقق بالهروب خلف الأسوار. هناك، كان الثبات عنوان غزة، ودوام المعونة الإلهية سندها، تمضي رغم رؤية الجثث والدمار، رافعة الدعاء: "ربنا أفرغ علينا صبرًا".

حتى عندما استنفد العدو كل جبروته، وأطلق آخر قنابله، وفتك بكل أسباب الحياة، بقيت غزة رمح الحق في وجه الزيف. يثبت الله قلوب أهلها، ويرعب قلوب أعدائهم، وتُسطر ملحمة صبرها منارة أمة، وشرفًا يُنال بالصبر العظيم.

أما المساكين المحاصرون، الذين لا وحي ينزل عليهم، يُقتلون في محرقة لا تنتهي، بأبشع الصور وعلى مدار سنتين، وسط صمت البشرية وخذلان أمة الغثائية، فهنا فقط يأتي النصر الحاسم ﴿جَآءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ (يوسف: 110)، حين تنقطع كل الأسباب، ولا يبقى سند للنصر إلا الله وحده.

في غزة، تتكسّر السيوف الحديدية على تخومها، وتهتز هيبة جيش الإبادة أمام صلابة أهلها، فتتعطّل عربات "جدعون" التوراتية بمضمون القتل العنصري، وتسقط أعداد من جنود الاحتلال على ترابها المقاوم. قرار الكابينت لاحتلال غزة وتهجير أهلها ليست سوى فصل جديد في محرقة مستمرة، محاولة بائسة لتمزيق النسيج وكسر الإرادة، لكن غزة، كما عهدناها، لا تعرف الانكسار.

بشعبها المقاوم، ووعيها المتأصل، تشكّل سدًا منيعا أمام طغيان المشروع الصهيوني، وتسد ثغرة الأمة في الدفاع عن فلسطين ومقدساتها. الأرض تحفظ بالوجود، والوجود يُصان بصمود الأبطال وتكاتف القلوب مع قول الحق: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

نتنياهو، بتطرّفه اليميني المتعنت، نسف كل آمال التفاوض، وضحى بأسراه، واليوم مطالب أن يترقب زلزال الضفة والقدس والداخل المحتقن، وصدى انتفاضات أحرار العالم تتصاعد ويخرجون بمئات الآلاف في لندن وسيدني واليمن. إنها معركة هوية وأرض، وغزة على تاريخها المضيء تبقى الشوكة الحادة في حلق المحتل، وجسر العبور نحو التحرير الشامل... ولتعلمن نبأه بعد حين.

في غزة، لا تُرفع الأسلحة فقط، بل تُرفع راية السماء في وجه الطغاة. هناك يُكتب الجهاد بدماء المظلومين، وتُسطر البطولات في ليل الحصار وتحت نيران الغدر. أهل غزة لا يقاتلون دفاعًا عن حدود فحسب، بل عن أمة بأسرها، عن أقصاها وكرامتها المسلوبة.

في غزة، تُسقط الأقنعة، ويُفرز الصف، وتتكشف وجوه الخيانة. لا مكان للحياد في ملحمة حطين العصر، فإما حق ناصع أو باطل خبيث. التجويع والتآمر لا يطفئ جذوة الإيمان بل ينضّجها. الصبر ليس ضعفًا بل إعداد لفتح عظيم.

إنها غزة... بوابة التمكين للمستضعفين، محراب الصادقين، ومحرقة المنافقين. ومن خلفها يولد فجر لن يطفئه ليل العرب النائمين، ولا نفاق المطبّعين، ولا قيود الطغاة.

النصر ليس رخيصًا، ولا سهلاً، ولا في متناول اليد، وإلا لأدركه الجميع. الجهاد والنصر ليسا رحلة مريحة، بل مواجهة دموية شرسة للظلم والظلام، مع تحريض الجماهير، وتخلي الأقرباء، وتحكم الأعداء.

في هذا الظلم، يثبت الله صفوة الحق من الرجال الصادقين، قلة قليلة ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13) ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ﴾ (البقرة: 249). ويفتح الله عليهم فتحًا مبينًا، فيدخل الناس أفواجًا في دين الله، فيتلى آية النصر ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ (النصر: 3) ﴿حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾...

إنها اللحظة التي تنكسر فيها ظنون الأرض على صخرة الغيب، حين تتصدع الأعمدة من تحت أقدام الرسل، وتغلق السماء أبوابها، وتوشك أن تُطفئ أنفاسهم ريح اليأس.

هناك، في الظلمة الحالكة، حيث لا ناصر يُرى ولا مخرج يُرجى، يظهر النصر الإلهي مباغتًا، مزلزلًا كوميض برق في ظلمات الفجر.

ليست الآية مجرد إخبار عن يأس بشري، بل عن لحظة الاصطفاء، حيث يُغربل الصف وتُرفع العيون نحو السماء وقد خارت كل أسباب الأرض. فيظن الرسل أن أقوامهم قد كذبوا وضاعت دعوتهم... لكن يأتي النصر.

نصر لا يملكه بشر، ولا يُقاس بزمن، يصنعه الله وحده، يُنجي من يشاء، ويُحطّم بقسوته كل مجرم جحد وكفر.

هذه هي سنة الابتلاء قبل التمكين، وذروة الملاحم: حين تولد المعجزة من رحم العجز.

أما الظالمون المجرمون، النازيون الصهاينة، فمصيرهم عذاب الله الحتمي،

﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110)

ويتحقق أمر الله النهائي:

﴿فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ (الأنعام: 45)

المصدر / فلسطين أون لاين