فلسطين أون لاين

تقرير صرخة الغزيين: الموت جوعًا أو بالرصاص

...
غزة/ هدى الدلو:

لم يكن الشاب صدام راتب عاشور (34 عامًا) يتخيّل أن جسده سيصبح خريطةً لوجع متكرر، وأن الحرب الإسرائيلية على غزة ستترك في كل جزء منه ندبة أو ألمًا أو عجزًا. فمنذ بدايتها في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أصيب خمس مرات، كانت أولاها كفيلة بتغيير مجرى حياته، حين بُترت ساقه اليسرى بتاريخ 29/10/2023.

"كانت لحظة صمت بعدها صراخ.. نظرت فوجدت رجلي ليست بمكانها، شعرت بألم كبير لا يُحتمل"، يقول لصحيفة "فلسطين" بصوت خافت يختزن صدمة لا تمحى من ذاكرته.

بعد البتر، بدأت سلسلة الإصابات التالية: أصيب عاشور مرة في القفص الصدري والظهر بشظايا مزّقت الجلد والعظم، ومرة أخرى في الفك السفلي ما أدى إلى تكسّر أسنانه وصعوبة في الكلام والأكل. كما تعرّض لحروق مؤلمة في مناطق متعددة من جسده، أبرزها الرقبة والوجه، لا يزال أثرها يشعل نارًا في جلده كلما نظر في المرآة.

"الوجع مش بس في الجرح.. الوجع في شكلي، في روحي، في كل مرة أشوف حالي مش زي قبل، وإني مش قادر أرجع لحياتي"، يقولها والدمع يخنق صوته.

في إصابته الأخيرة بتاريخ 15/7/2025، جُرح إثر قصف الاحتلال الإسرائيلي لمنزله في حي الزيتون شرق مدينة غزة، ليعود الألم من جديد، ويزداد اعتماده على الآخرين.

ويتابع عاشور: "أصعب شيء إنك تصير عاجز عن أمورك البسيطة.. حتى تلبية احتياجات أبنائك أو متطلباتك الشخصية"، يصمت ثم يكمل: "ما بدي شيء من الدنيا.. بس نفسي أرجع أمشي، ألعب مع أولادي، وأحس إني أب حقيقي".

طوال أشهر الحرب، لم يبرح عاشور وعائلته منزلهم، متمسكًا به رغم القصف المتواصل والخطر المحدق، كان يؤمن أن البيت، مهما ضاق أو تهدم، هو الأمان الأخير. ويضيف: "كنت أقول لنفسي ما في مكان أحنّ من داري.. وين بدي أروح؟"

لكن في لحظة واحدة انهار كل شيء، حين دمّر صاروخ إسرائيلي المنزل على رؤوس ساكنيه، فارتقى 16 شهيدًا من عائلته، بينهم والدته، شقيقه، أطفاله، شقيقته، وأقرب الناس إلى قلبه. لم يعد البيت بيتًا، بل مقبرة جماعية.

بعد المجزرة، اضطر عاشور للنزوح للمرة الأولى منذ بدء الحرب، مثقلًا بفقد لا يُحتمل. اليوم، يعيش في خيمة بلا ظل ولا ستر، يحاول أن يُكمل ما تبقى من حياته، وهو لا يحمل من ماضيه سوى صورة بيت تهدم وصوت أمه الذي لا يغيب عن باله.

اضطر إلى النزوح برفقة شقيقه إلى خيمة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، بينما لجأت زوجته وأطفاله الأربعة إلى بيت أهلها في منطقة أخرى، تفصل بينهم المسافات والوجع والذكريات المكسورة.

توزعت عائلته كما تشتّتت حياته؛ باتت الخيمة مأواه، وأصبح الحنين لضحكة أطفاله وملامح بيته هو كل ما يملكه، إلى جانب إصابات متفرقة في جسده.

"كل إصابة كانت توجعني بجسدي، لكن القصف الأخير وجع قلبي.. راحوا أغلى الناس، وبقيت وحدي"، يقول عاشور بأسى.

ورغم كل ما مرّ به، لا يقوى اليوم على العمل لتأمين لقمة العيش لأطفاله، بعدما أثخنته الجراح وأعجزته الإصابات المتكررة التي شوّهت جسده وأضعفته. ويضيف: "أربع إصابات وبتر.. ما ضل فيّ حيل، لا بقدر أوقف على رجلي، ولا أشيل شغلة بيدي، حتى نفسيتي ما بتساعدني أتحرك".

لم يخرج من بيته حين نزح إلا بالثياب التي كان يرتديها، ويقول بأسى: "طلعت من البيت وما كان معي حتى خيط وإبرة.. واليوم وضعي المادي صفر، حتى الأكل لأولادي ما بقدر أوفره إلا من تبرعات الناس أو وجبة طوارئ".

الاحتلال لم يترك له بيتًا، ولا أهلًا، ولا جسدًا سليمًا، ولا حتى قدرة على الإعالة. يعيش على فتات المساعدات، وتحاصره الكآبة والأسى في خيمته التي لا تقي من حر ولا برد. يختم عاشور: "اللي بيكسر مش البتر.. اللي بيكسر إنك تشوف أولادك محتاجين إشي وإنت عاجز تطعميهم".

المصدر / فلسطين أون لاين