*﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ﴾* – طه 40
في زمنٍ تتقاطع فيه الطرق وتتزاحم فيه الشعارات، يُولد القائد الحقيقي كطلقةِ يقينٍ في وجه التيهِ. ويولد أخي إسماعيل عبد السلام هنية، لا كاسمٍ في سجلات الثورة فحسب، بل كخارطةٍ تمشي على الأرض، ونبوءة عزٍّ تحققت على هيئة بشر. جاء على قدر، وفي التوقيت الذي تحتاج فيه الأمة إلى قائدٍ لا يساوم، ومشروعٍ لا يلين، ورؤيةٍ لا تضلّ طريقها.
لم يكن مجرّد رجلٍ يحملُ إيمانًا وبندقيّة، بل كان حاملًا لمشروع أمة، وحلم تحرير، ويقين عودة. سكن المخيم، لكن قلبه كان يسكن فلسطين كلها، من بوابة رفح حتى أسوار القدس، ومن خيام الشتات حتى عتبات الشهادة. إذا تكلّم، أيقظ الفكرة، وإذا صمت، نطقت هيبته. قائدٌ لم يتخلّ عن ضعيف، ولم يساوم على ثوابت، ولم يُهزم داخليًا وإن تكالبت عليه الدنيا.
هذا المقال، في ذكرى رحيله الأولى، ليس سيرةً فقط، بل محاولة لفهم كيف يصنع الإيمان إنسانًا، ويصنع الإنسان مشروعًا، ويصنع المشروع تاريخًا. نكتبه لا لنُؤرّخ لحظة استشهاده، بل لنُخلّد حياةً ملأى بالحكمة والحزم، بالدمع والدعاء، بالخطاب والسلاح.
نكتبه لأن القادة الكبار لا يرحلون، بل يبقون فينا ما بقينا أوفياء لما بدؤوه. نكتبه كي نعلّق اسمه على صدورنا، ونعلّق قيمه في ضمائرنا، ونورث خطّه لجيلٍ يركض نحو القدس ولا يعرف أن العودة لا تُصنع بالهتاف، بل بالرجال.
عندما تنظر إلى مسيرته، لا ترى رجلًا وحيدًا، بل ترى سيرة أمة في رجل؛ جرحها جرحه، وأملها أمله، ومصيرها مصيره الذي ارتضاه واختاره. في زمن الغموض، كان بوصلة، وفي زمن الفرقة، كان جامعًا، وفي زمن التراجع، كان طليعة لا تنكسر. إنه الصديق الصدوق، والأخ الدمث الوفي، الذي امتطى صهوة المجد منذ نعومة أظفاره عبر الدعوة والمقاومة والسياسة، بكل حكمة واقتدار.
جاء مبكرًا على قدر، فتتلمذ بهدوء على أيدي الإمام أحمد ياسين وعلماء وقادة تحرير، وتولى القيادة في منعطفات حاسمة من تاريخ فلسطين، ليشهد المشروع الفلسطيني معه تحولات كبرى: دعويًا، وجهاديًا، وتنظيميًا. وتحوّلت المقاومة معه من فعل ردّ إلى فعل بناء، ومن فصائل إلى منظومة جيش.
إنه واحد من أولئك الذين نذروا أرواحهم لرحلة التحرير الطويلة، جزء من "الطائفة المنصورة"، الذين لا يعرفون المساومة، ولا يخافون الفناء، لأنهم يعلمون أن وعد الله حق، وأن الأرض التي ارتفعت فيها أرواحهم ستُروى بالتحرير كما رُويت بالدماء.
ترجّل الفارس في مثل هذا اليوم، بعد أن خاض مع شعبه أعظم ملاحم العصر، رحل عن موقعه، وغزة التي كان أحد أعمدتها، ما تزال ملء السمع والبصر، تصنع التحوّلات، وتكتب التحرير، وتُبقي على فلسطين وهجًا لا ينطفئ.
لقد التحق بأولاده وأحفاده وأهله الذين زفّهم بكل شموخ وكبرياء، وها هو يلتحم معهم، ومع آلاف الشهداء من أبناء شعبنا، في مسيرة لا تنكسر، مجددًا العهد مع الله أن يظل على درب العظماء، على طريق ذات الشوكة.
ليست هذه حكاية رجلٍ وحيد، بل قصة عشرات، بل مئات من قادة القضية الفلسطينية الذين ارتقوا شهداء في ملحمة الطوفان والمحرقة، تجسيدًا لقول الله تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ – الأحزاب 23.

