﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾
إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف 87)
في غزة، حيث يحاصر الموت كل زاوية، تنبض القلوب بالثبات رغم الألم، وتغفو الأرواح على أملٍ لا يموت. هناك، وسط الركام والدموع، يولد الإيمان كزهرةٍ بين الشظايا، ويصمد كجبلٍ لا تهزّه الرياح. هي لحظة عشقٍ للحياة رغم المحرقة، وصبرٍ لا يعرف النهاية، يحملنا نحو فجرٍ جديد ينبثق من رحم الألم.
محرقة غزة، الممتدة لأكثر من اثنين وعشرين شهرًا، والمجازر اليومية التي تحصد أرواح العشرات، مع ما يصحبها من قسوةٍ وشظفٍ وعنتٍ ومشقة، جعلت الأبصار معلقةً بالسماء، والأكف ضارعةً إلى الله، وقد انقطعت الأسباب، ولم يبقَ إلا وجه الله العزيز الحكيم.
هذه المحرقة غيّرت مجرى حياتنا في غزة العزة، وربما ستغيّر وجه العالم. فالتحديات تحاصرنا من كل اتجاه، والموت يلاحقنا، والشهادة والارتقاء صارا جزءًا من مسار حياتنا اليومية، إلى جانب الجوع، والبرد، والمرض، والنزوح. ورغم الألم، فإن هذه المحنة هي تحدٍّ يستدعي استجابةً إنسانيةً وإيمانيةً جمعية، ويمنحنا فرصةً للارتقاء، وإيثار ما عند الله تعالى، وبذل محاولات متجددة للنجاة والصمود بإبداع جديد. وهذا ما نعيشه مع أهلنا في غزة.
ذلك التحدي القاسي نواجهه بحُسن الظن بالله: "ما أصابك لم يكن ليخطئك"، ونقابله بالهدوء، والتماسك، والسكينة، والاطمئنان بالله، مع بذل أقصى الجهد، والتحلي بالشجاعة مهما كانت النتائج. إنه درسٌ يوميٌّ متجدد، نتعلّم منه في كل لحظة، فالتحديات تشكّل شخصيتنا، وتمنحنا فرصًا جديدة للثبات والنجاح. وكتاب "أراك على القمة" من أشهر ما تناول هذا المعنى، إذ ربط المحنة بالنهضة الذاتية والنجاح.
نخوض هذا الامتحان الملحمي بالعمل، لا بالاستسلام للفراغ أو الهزيمة، فالله تعالى يقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح 1)، ويؤكد أن طريق النجاة هو إليه: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح 7–8)،
ويقول:وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (التوبة 94).
في غزة، حيث يتحوّل اليوم العادي إلى اختبار إيماني وسياسي، لا تنطفئ جذوة الروح رغم المحرقة. هناك، وسط الركام والحرمان، يولد فقهٌ جديدٌ للحياة، يدفع الناس إلى مواجهة الإبادة بالفعل والنية والصبر، لا بالكلمات فقط. ما يجري ليس كارثة طبيعية، بل محرقة مصنوعة بأيدي العدو وتواطؤٍ عالمي. الفقه يتحول إلى مقاومة، والطهارة إلى فعلٍ سياسي، والصلاة إلى تحدٍ للزمن. غزة اليوم ليست فقط تحت القصف، بل تحت امتحانٍ أخلاقي كوني، يفرز الصادق من المتخاذل، والواقف من الراكع.
في محرقة غزة، الإيمان عمل، والحركة تولّد الفقه. كل موقف جديد يولد سؤالًا فقهيًا، يبحث عن جواب شرعي: شهداء مقطّعون، وآخرون تنهشهم الكلاب الضالة، آلاف المفقودين، السرقات، قطع الطرق، نهب المساعدات، عدم توفر الأكفان، العيش المشترك في مراكز النزوح، المجاعة، الطهارة، صلاة الجماعة، بل وحتى صلاة الجمعة. كلها تدخل ضمن فقه النوازل.
"الحركة بركة" طبيًا ونفسيًا. هذه الحركة استجابة لحجم التحدي الذي بلغ حد المحرقة.
"اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل."
لسنا نتحدث عن المجاعة فحسب، بل عن الفقه تحت النار، عن المصلين بلا مساجد، عن الشهداء بلا أكفان، عن رجال ونساء يتوضؤون بالدمع، عن الحياة حين تتآمر الدنيا كلها على بقعةٍ صغيرةٍ من الأرض... ثم تنهض هذه البقعة كما نهضت سورة يوسف من قعر السجن إلى ملك مصر.
وهذا التحدي يولد العمل، والعمل يولّد الأمل. فاليأس هزيمة، واليأس موت، ونحن شعب لا يعرف الهزيمة:
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ} (يوسف 87).
يصاحب الأمل التفاؤل، ويقترن بالعمل، فـ"من يعمل صالحًا يُجزَ به".
العمل يحمل بشائر الفرج، ويشيع الأمل، إذ إن "نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر"، وجاء في الحديث: "بادروا بالأعمال".
لنشق طريق الحياة المخضبة بدماء الشهداء، دماء شعبٍ عظيم ومقاومةٍ باسلة، في وجه محرقةٍ موغلة في الإجرام، حتى حدود الإبادة والتطهير العرقي.
إننا نعيش لحظة تشبه دعاء يعقوب:
{وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ}،
ومثل يوسف، سنخرج من الجبّ، من السجن، من تحت الأنقاض.
لسنا فقط ننتظر الفرج، بل نعمل له، نصنعه في كل نَفَس، في كل مقاومة، في كل صمود.
غزة ليست جرحًا.
غزة امتحانٌ لضمير هذا العالم.

