"فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا"(الأحزاب32).
دأبت مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية على دراسة المتغيرات التي تطرأ على حركات التحرر بعد كل سلسلة من إجراءات التضييق والملاحقة، وهي تجمع هذه المتغيرات عبر شخصيات ومؤسسات ودول، لتلتقي بقادة تلك الحركات فتستمع إلى تطلعاتهم؛ التي تفهمها على أنها خططهم المستقبلية، وتلاحظ مدى ليونتهم؛ التي يحرص أولئك القادة على التظاهر بها؛ والتي يفهما الزائرون على أنها تمثل الحد الأدنى الذي يقبل به القادة في تلك المرحلة. ويتباحثون معهم سبل تحقيق مطالبهم، وهو مدخل ليتقدم هؤلاء الوسطاء ببعض العروض التي لا تصطدم مباشرة بثوابت القادة، فيشرع هؤلاء بدراسة تلك العروض وهو ما يُسفر عن تشكيل عقلية براغماتية قابلة للتعاطي مع أي طرح لا يؤثر مباشرة على مبادئهم. بينما يعود أولئك الوسطاء إلى بلادهم فيضعون كلمات القادة موضع الفحص والتحليل ليلاحظوا مدى التغير الذي طرأ على مواقفهم بعد كل جولة من التضييق، فإن لاحظوا أي تطور إيجابي يصب تجاه السياسة الغربية، يعتبرونه نجاحاً نسبياً فيعكفون على إعداد جولة تالية من التضييق والملاحقة والدعاية تضاعف نسبة التغيير في موقف قادة حركات التحرر، وهكذا.
إن ما أقدمت عليه قيادة حركة حماس من إبداء بعض المرونة في الآونة الأخيرة في اتجاهات العمل السياسي المختلفة، ما بين مشروع الدولة على حدود 1967، وإعلان وثيقتها السياسية، والانفتاح على النظام المصري من جهة والقيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، والتوجُّه نحو المصالحة مع رئيس السلطة الفلسطينية، ثم تسليم السلطة بطريقة دراماتيكية لم يتوقعها أحد. إن هذه المواقف المرنة، وغير المتشنجة التي أظهرتها حماس، ربما أرسلت رسائل خاطئة إلى الجهات التي ترصد أثر الحصار على حماس وعلى قطاع غزة، حيث فهمتها تلك الجهات على النحو التالي:
1- حماس تعاني من الحصار.
2- حماس مستعدة لتقديم ثمن لتخفيف الحصار أو إنهائه.
3- الثمن القادرة حماس على تقديمه لتخفيف الحصار في المرحلة الحالية هو تخفيف لغتها والتجاوز عن بعض سلوكيات لمنظمة التحرير كانت تعتبرها سابقاً جرائم وطنية.
4- الحصار أصبح مؤثراً في مواقف حماس.
5- مزيد من الحصار وتشديده سيدفع حماس لتقديم المزيد من المرونة والانصياع.
6- أو مزيد من الطلبات من حماس ستضطر حماس للاستجابة لها.
وعلى الرغم من أن مواقف حماس ثابتة ومبادئها وأهدافها راسخة كما كانت، وهي تعلن بين الفينة والأخرى رفضها للاعتراف (بإسرائيل)، ورفضها للمفاوضات الدائرة معها، ومطالبتها بإصلاح منظمة التحرير. إلا أن تقديم بعض المواقف الثابتة بلغة مرنة وسلسة وهادئة وغير صاخبة ولا منفعلة، جعل الذين في قلوبهم هوى مع الاحتلال، ومرضٌ في وطنيتهم، يتفاءلون بحدوث تغير في مواقف حماس، ويراهنون على تنميته، ويسعون إلى إبرازه شماتة في حماس، ودفعاً لها نحو المزيد من خلال تنويع أساليب التضييق النفسي والمادي والسياسي على حماس. ومن خلال هذا الطرح يمكن فهم تضافر الجهود المحلية والإقليمية لابتزاز حماس، والطمع في حل أذرعها العسكرية وتسليم سلاحها للسلطة المتعاونة مع إسرائيل، مع استمرار أشكال الحصار والتضييق على غزة بعد مضي أكثر من شهر على اتفاق القاهرة في أكتوبر الماضي.
إن رفع حماس للغة التعبير عن مواقفها وأهدافها ومبادئها، وتكرار ذلك في كل المحافل بوضوح ودقة بالغَيْن، يُلقي في نفوس أعدائها والمنافقين من بني جلدتنا ألا قِبَل لهم بحماس، وألا مجال لثني حماس عن مبادئها. وهذا ما يمكننا استيحاؤه من الآية الكريمة: "فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا"(الأحزاب32).