في وقت يعاني فيه قطاع غزة من شحّ حاد في الغذاء والماء والدواء، ووسط حرب إسرائيلية متواصلة منذ أكتوبر الماضي، يفاجَأ السكان بين الحين والآخر بتوافر بضائع تصنّفها إسرائيل "محظورة"، أبرزها الهواتف المحمولة، وألواح الطاقة الشمسية، والبطاريات، واللحوم المجمدة، بل وحتى منتجات ترفيهية كالمشروبات الغازية و"الشيبس" والشوكولاتة.
تساؤلات عديدة أثيرت في الشارع الغزي: كيف تصل هذه البضائع في ظل الحصار الخانق؟ من يُدخلها؟ وبأي ثمن؟ تحقيق "الشرق الأوسط" يكشف تفاصيل مثيرة عن طرق تهريب هذه المنتجات، وتورط مسؤولين إسرائيليين.
يؤكد أحد التجار المحليين، الذي فضل عدم كشف اسمه لدواعٍ أمنية، أن عملية إدخال شاحنة بضائع واحدة تصل كلفتها إلى ما بين 450 و600 ألف شيقل، أي ما يعادل نحو 135 إلى 180 ألف دولار، وذلك بحسب نوعية وحمولة الشاحنة.
ونتيجة لهذه التكلفة الباهظة، يضطر التاجر إلى بيع البضاعة بأسعار خيالية لا تتناسب مع مستوى دخل السكان. التاجر نفسه أوضح أن التنسيق يتم عبر اثنين من كبار التجار في غزة، يتواصلان مع شركة تخليص جمركي إسرائيلية، عبر وسطاء من دول أخرى، فيما يقتصر دور الشركة الإسرائيلية على ترتيب التنسيق اللوجستي.
ويضيف التاجر أن دخول الشحنات يتم أحيانًا بالتعاون مع مسلحين محليين أو فصائلية، مقابل أموال تُدفع كجزء من التكلفة الإجمالية، وتشمل تأمين طريق الشحنة وتخزينها لاحقًا في مخازن، أغلبها يقع وسط قطاع غزة، في منطقة دير البلح.
نتيجة لذلك، وصل سعر قطعة شوكولاتة واحدة إلى 100 شيقل (نحو 30 دولارًا) في المراحل الأولى، قبل أن ينخفض إلى 50 شيقلًا (نحو 15 دولارًا) بعد دخول كميات إضافية. أما كيلو اللحم المجمد، فقد سجل سعرًا أوليًا بلغ 500 شيقل (150 دولارًا)، قبل أن يتراجع إلى 300 شيقل (90 دولارًا)، رغم أنه لا يزال بعيدًا عن متناول معظم سكان غزة.
الأجهزة الأمنية في غزة التابعة لحركة "حماس" بدأت، مؤخرًا، تحقيقات واسعة مع عدد من التجار الذين يشتبه في تعاملهم مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر.
وتكشف مصادر أمنية أن بعض البضائع التي دخلت القطاع كانت تحتوي على أجهزة تجسس زُرعت دون علم التاجر، وأن بعضها وصل لاحقًا إلى عملاء يعملون لصالح الاستخبارات الإسرائيلية.
وقد أُفرج عن بعض التجار بعد التحقيق، فيما تم إطلاق النار على آخرين في أقدامهم كتحذير، وأُبلغوا صراحة بخطورة التنسيق الحالي وارتباطه بمخاطر أمنية جسيمة.
وتؤكد المصادر الأمنية نفسها أن ضباطًا كبارًا من جهاز "الشاباك" والجيش الإسرائيلي متورطون في هذه العمليات، حيث يحصلون على رشاوى ضخمة مقابل تسهيل مرور البضائع عبر المعابر، مستفيدين من حالة الفوضى والضغط على الأسواق. وتشير إلى أن بعض الشحنات التي دخلت في الآونة الأخيرة احتوت على أجهزة تجسس متقدمة، وُضعت داخل طرود لا تثير الشبهات.
الفضيحة لم تتوقف عند حدود غزة، بل كشفت القناة 12 الإسرائيلية عن تورط شخصيات إسرائيلية بارزة في عمليات تهريب مماثلة. فقد تمكن نائب رئيس بلدية كريات جات، يغئال واينبرغر، وعضو كنيست سابق عن حزب "الليكود"، من تهريب عشرات الشاحنات المحملة بمنتجات ممنوعة إلى غزة، مستغلين غطاء منظمة دولية تعمل في المجال الإنساني.
وبحسب القناة، فقد تم استبدال شحنات معجون طماطم بعلب سجائر ومنتجات تبغ مخصصة للبيع بأسعار خيالية داخل القطاع. وقد أقنعا رجل أعمال إسرائيلي باستثمار 5 ملايين شيقل في "المؤسسة الإنسانية" مقابل أرباح تصل إلى 25 في المئة، قبل أن تنكشف الحقيقة ويتم تعليق رخصة المنظمة من قبل منسق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية.
في غزة، تؤكد مصادر مطلعة من "حماس" أن التحقيقات التي تجري حاليًا تتوسع نحو مؤسسات دولية أُدخلت في دائرة الشبهات، بعد ثبوت استفادة بعض مندوبيها من عمليات التهريب، مستغلين حاجة السكان وغطاء العمل الإنساني.
وتؤكد هذه المصادر أن هناك شبهات فساد واسعة يجري تتبعها، في وقت بدأ فيه تجار محليون بإعلان التبرؤ من أي علاقة بهذه الشحنات المشبوهة، بعد تداول أسمائهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
في المقابل، أصدرت الغرف التجارية والصناعية في غزة بيانًا رسميًا الشهر الماضي، دعت فيه إلى الحذر من تنامي ظاهرة "التنسيقات التجارية"، مؤكدة أن بعض الجهات المشبوهة تعرض صفقات لتجار محليين مقابل مبالغ مالية طائلة لإدخال شاحنات بضائع عبر آليات غير واضحة.
وأكد البيان أن هذه التنسيقات تؤدي إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية، في وقت يعاني فيه غالبية سكان القطاع من انعدام الأمن الغذائي، وفقدان مصادر الدخل، وانهيار شبه كامل للبنية الاقتصادية.

