"ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" (هود: 6)
في قلب المجاعة والنار، حيث الجوع يقضم الأرواح قبل الأجساد، والشمس والعوز يُقطّع أوصال الخيام المثقوبة، تقاوم غزة بطونها الخاوية كما قاومت دبابات المحتل. تشدّ حزام اليقين على خاصرتها الجائعة، وتُقسم أن الرزق بيد الله لا بيد الغاصب. الجوع عندها ليس يأسًا، بل امتحان صدق وإرادة. لا يُرهبها انقطاع الطعام، ولا يُثنيها فقدان المأوى، فهي التي ذاقت نار التهجير وابتلعت رماد البيوت، لكنها ما زالت شامخة، تتواصى بالصبر والتقوى، تقتسم ما تبقى من رغيف، وتبحث عن النور في عيون أطفالها، وتنقّب عن القوت بالحلال ولو بين الحصى.
تُقاتل غزة الجوع كما قاتلت القصف، وتعتصم بربها، وتنادي السماء بثقة الأنبياء: "وفي السماء رزقكم وما توعدون". لا تخون الأمانة، ولا ترضى بالحرام، بل تنبت من رحم النار نساء كخديجة، ورجال كعمر، وجوعى كالسنوار. ذاك الذي استُشهد دون أن يتناول طعاما لأكثر من 72 ساعة، رفض أن يأكل لأن شعبه لا يأكل، اقتداءً بعمر في عام الرمادة حين قال: "كيف يهمّني أمر رعيّتي ما لم يمسّني ما مسّهم؟"
وفي كل صباح، يُذبح الجوعى عند أبواب المساعدات، في مصائد الموت التي نصبتها ما تُسمّى زورًا "مؤسسة غزة الإنسانية" الأمريكية، تلك التي لا توزع الطعام بل تنسّق مع الاحتلال في هندسة الجوع، وتتحكم في قوائم الضحايا والناجين. تقف كواجهة ناعمة للاحتلال، تنظّم صفوف الفقراء لتسهل عليهم الإبادة تحت عدسات العالم.
نترحم على شهدائنا الجوعى الذين ارتقوا وعيونهم شاخصة إلى شوال الطحين المعلّق على شاحنة محاصرة، وقلوبهم موقنة بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى. هؤلاء الشهداء ليسوا أرقامًا، بل شهود سقوط القيم والأخلاق أُطفئت بدم بارد في ظلمة الإنسانية الكاذبة.
غزة اليوم لا تملك بيتًا، ولا طعامًا، ولا دواءً، ومع ذلك ما زالت تملك الأخلاق والكرامة. الجرحى يُعالَجون على الأرض، والعائلات تقتسم الماء والخبز، والمآوي من الخيام لا تقي بردًا ولا حرًا. كل ذلك ترك أثرًا بالغًا على النفوس والعلاقات الاجتماعية، لكنه لم يسحق البوصلة الأخلاقية. فالغزّيون، رغم الكارثة، لم يفقدوا التوازن، بل نظروا للأزمة بعين الحل، لا بعين الانهيار.
ومن صُلب المعاناة، ولدت شراكات جديدة داخل البيوت. فالزوج والزوجة والأبناء جميعًا باتوا شركاء في البحث عن مصادر دخل بديلة. خرّيجو الجامعات يعملون على بسطات، والدكاترة يقودون الدراجات لتوصيل الطلبات. خريجات جامعيات يعملن أو يعلّمن بالمجان، الكل يمارس شرف الكفاف، ويمضي على نهج الحبيب ﷺ حين قال:
"لا تشترِ ما لست مضطرًا إليه حتى لا تبيع ما أنت مضطر إليه" (الطبراني).
ورغم وجود فئات انزلقت نحو الحرام – من سرقة واحتكار وربا وتسييل – إلا أن هذه حالات استثنائية. النموذج الغزي السائد هو العمل الشريف والتكافل الأخلاقي، وخاصة من النساء العصاميات اللواتي وقفن خلف أزواجهن كخديجة في بدايات الدعوة. فتيات ونساء يتحركن بالحكمة والحياء، ويحوّلن الحاجة إلى عزيمة.
ويعلم أهل غزة أن الرزق لا يأتي من شاحنات المعونة، بل من السماء. "ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" (هود: 6)، و"ما كان لنفس أن تموت إلا وقد استوفيت رزقها وأجلها". لهذا هم يصبرون، لا لأنهم تعودوا الجوع، بل لأنهم يعرفون الله في الجوع كما عرفوه في المحرقة والمحنة القاسية.
في محرقة لا مثيل لها، لم يغرق الغزيون في التسوّل ولا في الفوضى. لجؤوا إلى الله، ووقفوا على باب السماء كما فعل عمر في الاستسقاء، ينادون:
"اللهم أطعمنا من جوع، وآمنّا من خوف" (
يرفعون أيديهم بالدعاء، وقلوبهم مملوءة بيقين جازم:
"والله خير الرازقين" (آل عمران: 73).

