"*وإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ*" (آل عمران: 186)
بالدم تُكتب الملاحم، وعلى ترابها تُنقش الآيات، وهنا في غزة — حيث تلامس السماء الأرض — يولد المجد من رحم المحنة، ويكبر الصبر على صهيل النار. ليست غزة مدينة، بل ملحمةٌ تمشي، ورايةٌ لا تنكس، ووعدٌ إلهيّ يتجدد مع كل طلقة، وكل شهيد، وكل أمّ تُربّت على جراحها وتقول: الحمد لله رب العالمين.
غزة ليست مجرد مدينة تُقصف وتُدمَّر، بل ميدان تختبر فيه السماء صلابة الأرض، ويُصفّى فيه الصادقون من المتخاذلين، وتُقدَّم فيه الأرواح قرابين للعزة والكرامة. كل حجر فيها يروي قصة صمود، وكل شهيد يُرفع فيها هو راية نصر مؤجل. من بين الركام والدخان، تنهض غزة كل مرة، تمسح دمها، وتشد على قلبها، وتصرخ في وجه العالم: "لن ننكسر، ولو اجتمع علينا الكون كله."
الابتلاء سنّة ماضية في أصحاب الرسالات، لا تستثني نبيًّا ولا صادقًا. قال الله تعالى:
"أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت: 2–3)
وقد قُدّر لغزة أن تكون ساحة لهذا الابتلاء العظيم، حيث البلاء مركب: قتل وتشريد، فقدٌ وجوع، حصار ودمار، وأذى نفسي وإعلامي، بل وأذى من القريب قبل الغريب. وصدق الله:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 155)
وما من طريق لعبور هذه المحنة إلا بالصبر والثبات، كما أخبر النبي ﷺ:
"حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" (رواه مسلم).
فالصبر ليس ضعفًا، بل وعيٌ إيماني بأن نهاية البلاء نور، وأن الفرج يوشك أن يُولد من رحم الشدة. وها هي غزة تعلمنا أن ننتظر الفرج لا بيأسٍ ولا وهن، بل بيقينٍ وثقة بمعية الله، إذ قال سبحانه:
"إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح: 6)،
"إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" (التوبة: 40).
ومتى ما جاء الفرج، فسنّة النبي ﷺ كانت ترميم ما تهدّم، وجبر ما انكسر، وسجود شكر لله الذي نجّى. كما قال تعالى مذكرًا بنعمته:
"وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الأنفال: 26).
وهكذا هي غزة، حتى وهي تنزف، تمسح دموع المكلومين، وتواسي المنكوبين، كما قال النبي ﷺ:
"اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يُشْغِلُهُمْ" (رواه الترمذي).
ولنا أن نبشّر المكلومين اليوم، أن شهداءهم قد سبقوهم إلى جنان الخلد، كما بُشرت أم حارثة، فقال لها النبي ﷺ:
"يا أم حارثة، إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" (رواه البخاري).
نحسب أن شهداء غزة نالوا ذلك المقام، وأسسوا غزة جديدة هناك... في الفردوس الأعلى.
أما نحن الباقون، فدعاؤنا: أن يتم الله علينا نعمته برفع البلاء، ووقف القتل والتجويع والتشريد، وأن يعيد لأهل فلسطين أرضهم وكرامتهم، كما وعد الله:
"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا" (الطلاق: 2)،
"فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح: 6).
فكل محنةٍ يعقبها تمكين، وهذه سُنّة الله في الأنبياء والصالحين، كما قال في يوسف عليه السلام:
"وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" (يوسف: 21).
وسيأتي يوم تُمحى فيه آثار العدوان، وتُبعث فيه فلسطين حرّة، وتُرفرف راية الحق، ويُقال للعالم:
"أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟" (هود: 81)

