{ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } – المطففين: 26
في غزة، لا يحتاج الإنسان إلى تعريف... فالمكان هو التعريف، والزمن هو الشاهد. هنا، حيث يُعاد تعريف البطولة كل يوم، وحيث تُكتب الملحمة لا بالحبر، بل بالدم والتراب والدمع. في غزة، لا يُوزن الناس بما يملكون، بل بما يضحّون. لا يُقاس الشرف بعدد النياشين، بل بعدد المرات التي وقفت فيها عاري الصدر أمام الخوف، وقلت: ربّي الله، ووطني فلسطين.
العدوان لم يكن يوماً ضد سلاح فقط، بل ضد الحياة ذاتها. ومع ذلك، فإن غزة لا تموت، لأن من يسكنونها قرروا أن يعيشوا بكرامة أو يُبعثوا شهداء. لقد ارتقى رجال يقفون في الصفوف الخلفية – في ظاهر الأمر – ولكنهم كانوا في مقدمة البطولة. رجال لم يحملوا بندقية، بل حملوا أكياس الدم، وأنابيب الأوكسجين، والكاميرات، والمجارف، والمقاعد المدرسية، وأطباق الطعام.
من قلب النيران ارتقى رجال الإسعاف، لم يكونوا جنوداً على جبهة القتال، ولكنهم كانوا جنوداً في جبهة الرحمة. ينقذون ما تبقى من بشر في مدينة تنزف. كانوا يركضون نحو الموت، لا هرباً منه بل لإنقاذ من سبقه. بهم يُحيا الجريح، ويطمئن الناجي. وقد ارتقى منهم 114 شهيدًا، ليؤكدوا أن الإنسانية لا تنكسر حتى لو سُحقت تحت الركام.
وفي ممرات المستشفيات، حيث لا دواء إلا ما بقي من أمل، ولا أجهزة إلا القلوب النابضة، كان الكادر الصحي يقاتل بطريقته. لم تكن معركتهم على الحدود، بل بين الحياة والموت، حيث كل ثانية قرار. 987 طبيبًا وممرضًا ومسعفًا وصيدليًا، ارتقوا وهم يداوون غيرهم، وأبوا أن يتركوا الجريح وحيداً. في كل لحظة حياة منحها طبيب هناك، كانت معجزة صغيرة في زمن الخراب الكبير.
أما رجال الدفاع المدني، فهم الأبطال الذين يركضون عكس التيار دومًا. في الوقت الذي يُخلي فيه الناس بيوتهم، يدخلونها هم، يفتّشون بين الأنقاض عن نبض، عن بكاء، عن جفن يرتعش تحت الرُكام. 116 شهيدًا منهم حتى الآن، سقطوا وهم يحاولون انتشال حياة من بين أنياب الموت، وكل من نجا من بين الردم كان يحمل أثر أيديهم المتفحمة، وعرقهم الممزوج بالغبار.
وفي جبهة الكلمة، حيث الصورة أقوى من الرصاصة أحيانًا، كان الإعلاميون يسقطون تباعًا، ولكنهم لا يصمتون. هؤلاء الذين أرادوا أن يُسمعوا صرخة غزة للعالم، فدفعوا أرواحهم ثمنًا للحقيقة. أكثر من 227 شهيدًا من الصحفيين، لم يكونوا على الهامش، بل في قلب الحدث، لأن الحقيقة في غزة لا تُؤخذ من وراء المكاتب، بل من بين الشظايا والجراح.
وفي الخلفية التي يظنها البعض صامتة، كان الشعب... هذا الشعب الذي هو وحده المعجزة. من يوزع الطعام وهو جائع، من يحرس المدرسة التي آوته، من يحمل دلو ماء على كتفه لمسافة كيلومترين، من يُدرّس الأطفال تحت شجرة، من يبني خيمة فوق ركام منزله، ويقول "الحمد لله". في غزة، المدني ليس متفرجًا، بل صانع للكرامة اليومية. هو من يربّي أبناء الشهداء، ويواسي الأمهات، ويُصلّي دون سقف، ويبتسم وسط الجوع.
ووسط كل هؤلاء، يقف المقاوم داوود... الذي لم نعد نراه مجرد صورة مُعلّقة على الجدران. لم يعد ظريف الطول مجرد حكاية تراثية، بل صار حقيقة، من لحم ودم ونار. ذاك الذي يخرج من تحت الأرض في خانيونس وجباليا وبيت حانون والشجاعية ومن تحت الركام لا ليهرب، بل ليقاتل. ذاك الذي يحمل روحه في كفه، ويقول للعدو: لن تمر. هو الفكرة التي لا تُهزم، والرمز الذي لا يُكسر. هو من لا يعرف التراجع، ولا يفهم لغة الانحناء.
هكذا، تُعيد غزة للعالم تعريف المعنى. في غزة، لا أحد عادي، لأن الكل بطل. في غزة، لا وجود للحياد، فإما أن تكون ممن يبنون على الدم، أو ممن يطؤون عليه. لا مساحة رمادية هنا. كل شيء واضح: الميدان، والعدو، والرسالة.
وفي هذه الساحة المفتوحة، حيث الكرامة أثمن من الحياة، يتنافس الناس: من يُنقذ، من يُطبب، من يُطعم، من يُقاتل، من يُوثق، من يظل واقفًا بعد أن سقط كل شيء.
إنها ساحة سباق ليست كغيرها، وفيها فقط... { وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }

