*﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾* – الكهف 59
وعدٌ إلهيّ لا يتقدّم ولا يتأخر، محفورٌ في كتابٍ لا ريب فيه، ومذخورٌ لمن أحسن التدبر في شفرات القرآن، فكما لبث الفتية ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا بعدد الكلمات من بدء قصتهم، كانت "غزة" فتية هذا الزمان، كهف الأمة في زمن البلاء، وميدان الحساب الإلهي الذي لا يُخطئ؛ فالمعركة ليست لحظة عابرة، بل موعدٌ مقدر، صراع بين وعديْن: وعد الإفساد ووعد الزوال، بين دولة اغترّت بقوتها فظنّت أن حصونها تمنعها من الله، وبين وعدٍ يسير بين الأرقام والسياق، يرسم خارطة التحرير من الكهف إلى الإسراء إلى الحشر إلى يس؛ وعدٌ يربط الملاحم بالمعادلات، ويصنع من الإعجاز العددي جسرًا نحو اليقين، فينقلب التنجيم إلى توقيت، والانتظار إلى بشارة، والدم إلى نور. وما يجري اليوم ليس نهاية غزة، بل بداية النهاية لأعتى إفساد شهده العصر، فالأيام تدور، والحصون تُخرب من داخلها، والموعد يقترب: ﴿ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله﴾ [الروم: 4]،.
يا لها من آيةٍ عظيمة، وعدٌ مرقوم في سطور القرآن، ليس مجرّد إخبار، بل توقيت إلهي دقيق، و"شفرة تحرير" أودعها الله في كتابه لمن أحسن القراءة والتدبر.
في زمنٍ كثر فيه التشكيك بالإعجاز العددي، واُستهزئ بمن يحصي الكلمات كما تُحصى النجوم، جاءت سورة الكهف لترد بثباتٍ مذهل: من بدء قصة أصحاب الكهف حتى قوله تعالى:
﴿ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (الكهف 25)
ثلاثمئة كلمة تمامًا، بعدد السنوات الشمسية التي لبثوها، ثم أُضيفت "التسع" كأنها إشارة إلى الفرق بين التقويم الشمسي والقمري، وكأنّ الحساب – لا الظن – هو الشاهد الذي لا يُكذّب.
ذلك ليس تنجيمًا، بل علم توقيت وتبشير، ربطٌ بين العدّ والسياق، بين الرقم والمعنى، بين الكلمة والمصير.
هذه الأنماط تتكرر في الإسراء، والروم، ويس، حيث يتحوّل النص الإلهي إلى خارطة زمنية ترشد المؤمنين إلى مواعيد النصر ومواقيت الفرج.
فإذا كانت ﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ تخصّ قرية ظلمت وأفسدت، فمشهدها يتكرّر، من خيبر إلى غزة، حيث الجدران لا تحمي الطغاة، والحصون تنهار من الرعب، والخراب يبدأ من داخلهم.
الاختراق الرقمي للنص القرآني – كما جاء في اجتهادات باحثين مثل د. بسام جرار – لا يستهدف تحديد اليوم والساعة، بل الكشف عن النواميس التي تحكم التاريخ:
﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس 5)
وبذلك يتحوّل القرآن من كتاب هداية فقط، إلى كتاب حضارة وتوقيت واصطفاء.
ومن هنا، يمكن قراءة آيات سورة الإسراء: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ﴾، وسورة الروم: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، وسورة يس: ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾، جميعها تؤسّس لنمط إلهي من "الوعد المؤجَّل" الذي لا يُخلَف، ولكنه يُمنَح لأهله بعد البلاء والتمحيص.
في قلب هذا السياق، تأتي غزة اليوم لتكون "كهف الأمة"، الملاذ حين تعصف العواصف، والموعد حين ينضج الحساب.
المعركة الدائرة ليست صدفة، والمحرقة ليست عبثًا، بل هي صراع مواعيد:
وعد الإفساد وزواله،
وعد الخروج والعودة،
وعد ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾،
ووعد ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾.
كل ذلك، وغيره، يحمل أفق قراءة علمية رقمية دقيقة في بحر هذا الكتاب المبين، وما يمكن الوصول إليه من إشارات مبشّرة وزوايا دلالية ناصعة، كلها تؤكد أن زوال دولة الإفساد قادم، كما زال الإفساد الأول، وأن نهاية محرقة غزة ستكون بزوال عصابات الإبادة.
وهكذا تُغلق دورة الظلم، ويُستعاد مشهد الهلاك الموعود:
﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ – الحشر 2
فما بين الإسراء والكهف والحشر، خارطة مكتوبة لمن صدق، وتوقيت محفوظ لمن صبر، ووعد لا يتأخر وإن طال، لأنه وعد من لا يُخلف الميعاد.
إن كل ما نشهده اليوم هو مقدمات لموعِدٍ كُتب في اللوح المحفوظ:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ – الملك 25

