فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

*﴿لَأَعَدّوا لَهُ عُدَّةً*﴾ التوبة46

أنفاق غزة ليست مجرد حفر في الأرض، بل هي نبض الإرادة التي لا تنكسر، صمود الأبطال الذين نسجوا بها أسطورة لا تُمحى، حفروا بدمائهم طريق المجد والفداء. كما كان خندق المدينة حصن النبي ﷺ وأصحابه، هي الآن خندق غزة العصري، يحمي شعبًا لا يعرف الانكسار، يسطر أروع ملاحم الثبات والبطولة، ويُعلن أن الأرض التي صمدت لأجيال، لن تُسلم مهما عاث فيها الغزاة خرابًا. غزةُ اليوم هي الصوت الذي لن ينطفئ، والنصر الذي يوشك أن يُكتب بدماء الشهداء وبإرادة لا تقهر.

وراء كل نفق قصة ألم لا تُروى، فقد عاش المجاهدون شهورًا تحت الأرض، في عتمة خانقة، لا يرون الشمس، ولا يشتمّون نسيم الحياة، يحملون معهم معاولهم وأوجاعهم، ويحفرون بأيديهم وهم يتنفسون تراب الوطن، ويكابدون البرد والرطوبة والاختناق والمرض، دون شكوى أو تراجع. بعضهم قضى نحبه هناك، وبعضهم عاد محنيَّ الظهر، منهوك الجسد، لكنه مرفوع الرأس. ومن بين جدران الصمت تلك، قاتلوا، وباغتوا، وردّوا على المجازر بكرامة الدم. أما أهل غزة في الأعلى، فقد عاشوا تحت نار المحرقة، في حصار خانق، بلا ماء ولا دواء، بلا سقف يحميهم ولا هدنة تُنقذهم، لكنهم صمدوا مع المجاهدين، شعبًا يحفر الحياة في أرضٍ يريدها العدو قبراً.

كان خندق المدينة مقترح سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي لم تعرفه العرب من قبل، وتحصّن به النبي ﷺ وأهل المدينة، فحفروه في وقتٍ قياسي، وكان رسول الله ﷺ في مقدمتهم، يربط وأصحابه الحجارة على بطونهم من شدّة الجوع، لكنه ﷺ كان يبشّرهم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهم في شدّة الضيق والضعف، قائلاً: "أضاء الله قصور الشام وفارس واليمن".

أسقط الخندقُ الأحزابَ الذين حاصروا المدينة، إذ فاجأهم وأفقدهم الحيلة والوسيلة، فلم يستطيعوا له حلًّا، واستمروا في عدوانهم حتى ردّهم الله تعالى خائبين:

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: 25).

فكان الخندق كلمة السر، إلى جانب الوقيعة بين الأحزاب التي أحدثها تخذيل ابن مسعود، فشتّت الله شملهم وفرق صفوفهم.

على مدار أكثر من عقدين، واصلت مقاومة غزة حفر أنفاقٍ بأنواعها المختلفة، ممتدة بمساراتها وطبقاتها ووظائفها في كل مكان، حتى غدت أنفاق غزة مدينة أنفاق كاملة، مترامية الأطراف، تفوق مساحتها قطاع غزة ذاته.

لقد تفوقت غزة بأسطورتها النفقية على كل أساطير التاريخ، متجاوزة حتى أنفاق فيتنام، عبر عملٍ جبار لم يتوقف ليلًا أو نهارًا. مئات المجاهدين حفروها في مراحلها الأولى بأيديهم وأظافرهم، دون معداتٍ تُذكر، ونُفّذت عبرها عشرات العمليات الفدائية، أشهرها عملية "الوهم المتبدد" التي تم فيها أسر جلعاد شاليط، فضلًا عن مهاجمة العديد من المواقع والمستوطنات حتى أُجبر الاحتلال على الخروج من غزة قبل عقدين.

وفي ملحمة الأنفاق، ارتقى مئات الشهداء من خيرة الشباب، فدفنت أجسادهم الطاهرة في باطن أرض غزة، بينما أصيب مئات آخرون بأمراضٍ في الأعصاب والظهر وبقية أعضاء الجسد، جراء جهودهم الجبارة في الحفر والإعداد.

وفي ملحمة الطوفان والمحرقة، اشتبكت مقاومة غزة من نقطة الصفر عبر أنفاقها الهجومية والدفاعية، وأوقعت في صفوف عصابات الإبادة قتلى وجرحى، وشاهد العالم كيف يخرج "داوود" الفلسطيني من عين النفق، على بُعد خطوة واحدة من دبابة "الميركافا" - التي تُوصف بأنها أسطورة عسكرية محصّنة - ليحطمها بعبوة "شواظ" أو قاذف "الياسين 105" من نقطة الصفر، فتهوي متفجّرة مشتعلة، ويتساقط جنودها بين قتيلٍ وجريح.

إن أنفاق غزة هي الخندق المعاصر، الذي لا نظير له في التاريخ، حفَره: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23)، رجالٌ أصحاب إرادة فولاذية، وعزيمة لا تلين، وثبات أسطوري. فاستُخدمت هذه الأنفاق على خير وجه، حتى أصبحت غزة كلها أسطورةً فدائية ومقاومة وجهاد، وكانت – وما زالت – كلمة السر في صمود مقاومة غزة وثباتها وإيلام عصابات الإبادة، وسيكون لها الدور الحاسم في النصر القادم: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88).

المصدر / فلسطين أون لاين