﴿*انفِروا خِفافًا وَثِقالًا﴾*
{وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]
جبهات المقاومة التي فجرها طوفان الأقصى لم تكن لحظة مواجهة عابرة، بل بركانًا تاريخيًا أطاح بخرائط الردع القديمة، وأعاد صياغة الشرق الأوسط وفق منطق الدم والصمود ووحدة الجبهات. ما نشهده ليس مجرّد اشتباكات على حدود أو ضربات انتقامية؛ بل هي زلزلة استراتيجية تهز أعمدة النظام الإقليمي وتعرّي الزيف الأمريكي، وتعيد تشكيل وعي الأمة بأن العدو واحد، وأن الطريق إلى التحرر تمرّ من بوابات النار.
غزة، هذه المدينة المحاصَرة المجوعة، لم تعد فقط عنوانًا للصمود، بل تحوّلت إلى قلب معركة كونية بين مشروعين: مشروع استعماري إحلالي يتداعى رغم جبروته، ومشروع تحرري شعبي تنهض فيه الشعوب وتتوحد الجبهات وتُسقط الأسوار الجغرافية والمذهبية.
من لبنان الذي خاض ملحمة المواجهة من جبل عامل إلى سفوح الجنوب، إلى اليمن الذي حوّل البحر الأحمر إلى ميدان مواجهة حقيقية ضد المصالح الصهيونية والأمريكية، إلى العراق وسوريا اللتين تشهدان تصاعدًا لوتيرة المواجهة، ثم إلى إيران التي واجهت عدوانًا صهيونيًا مباشرًا استهدف قلبها النووي والأمني... تشهد المنطقة اتساع دائرة النار، واتساعًا موازيًا في الوعي بأن ما يحدث هو صراع وجود لا صراع حدود.
رغم محاولة الاحتلال الغاصب تفكيك هذه الجبهات والتفرّد بها، عبر جرائم اغتيال وتدمير وشيطنة، فشل في إسكات صوت المقاومة، وفشل في فرض ردعه، بل وجد نفسه مردوعًا للمرة الأولى منذ تأسيس كيانه، يعيش حالة رعب وجودي داخلي، تتبدى في ارتباك مؤسساته وتهاوي جبهته الداخلية، كما وصفهم القرآن الكريم:
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].
في خلفية هذا المشهد، تبرز أمريكا باعتبارها الشيطان الأكبر، تحاول عبثًا إنقاذ مشروعها الإقليمي المتآكل، فيما تواجه ضغوطًا داخلية متصاعدة، من حركة MAGA التي ترفض المغامرات الخارجية، إلى الانقسام العميق في القرار السياسي والعسكري. أوروبا بدورها غارقة في ارتباكها، بين تبعيتها لواشنطن وخوفها من انهيار التوازن العالمي أو اندلاع حرب نووية عابرة للقارات.
كل ذلك يجعل المنطقة مفتوحة على ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
1. تهدئة مؤقتة عبر صفقة تبادل كبرى تعيد ترتيب المشهد، وتؤجل المواجهة، لكنها لا تُنهي جذوة الغضب المتصاعدة.
2. انفجار إقليمي شامل يقود إلى حرب طويلة، بمشاركة كل أطراف محور المقاومة، وقد يطال القواعد الأمريكية في الخليج ومصالح الغرب في البحر.
3. تفكك داخلي في الكيان الصهيوني، نتيجة الفشل السياسي والعسكري والاجتماعي، يقوده إلى حالة من التفسخ قد تعصف ببنيانه من الداخل.
لكن الأخطر من ذلك، يبقى خيار "شمشون" النووي، الذي تلوّح به النخب الصهيونية، في ظل جنون حكومة فاشية لا ترى في وجودها خيارًا إلا الفناء أو الفناء مع الجميع، بينما تتعهد باكستان بردّ نووي إذا مُسّت إيران، ما يفتح على أبواب نهاية النظام العالمي الحالي.
إن ما يعيشه الشرق الأوسط اليوم ليس شفا هاوية فقط، بل هو عبور إلى زمن جديد، لا ترسمه اتفاقات سايكس بيكو ولا تحسمه مؤتمرات التسوية، بل تصنعه دماء المقاومين وصمود الشعوب، وتخطه غزة بأشلاء أطفالها وأحلام نسائها وأكفان رجالها الذين قالوا للغطرسة الدولية: لا.
طوفان الأقصى ليس لحظة عابرة، بل علامة كبرى على بدء انحسار المدّ الاستعماري، وعودة المنطقة إلى بوصلتها المركزية: التحرر من الاحتلال بكل أشكاله.
وفي نهاية المطاف، تبقى الكلمة الفصل في وعد الله:
*{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21].*

