﴿ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ﴾ المائدة21
من غزة إلى عسقلان... خير الرباط وصدق العهد، قلبي هناك، وعيوني هناك، وقسمي على الوعد. مهما اشتدت المحرقة والحصار وامتد الركام، نحن أهل غزة، أبناء عسقلان... ابناء الأرض المقدسة التي كتبها الله لنا، ولا نرى غير العودة لها شرفًا يعلو فوق كل شرف.
فلسطين والقدس وعسقلان وغزة تسكنني حتى حين كنت أدرس الدكتوراه في أوروبا، لا أرى لها بديلاً رغم توفر فرص مريحة خارجيًا، ورغم قسوة غزة وأيامها ولياليها تحت حصار وعدوان مستمر، وفي ظل انتفاضات واغتيالات حتى قبل 7 أكتوبر والمحرقة؛ وحتى بخشونة أهلها وشظف العيش وضيق أبواب الرزق فيها؛ فلا أكاد أخرج منها لعمل قصير حتى اشتاقها. فهي عشقي وحبي وأهلي وصباي وأنسي، والأقرب لعسقلان العودة والتحرير.
هوى عسقلان يأسرني، ومن موقعي في شمال غزة بين الركام والبيوت المدمرة التي غدت مع كل جولة عدوان في محرقة غزة القاسية بقايا من بقايا حطام. كل يوم يشرأب عنقي ويرتفع رأسي، واستطلع رأي العين شمالًا حيث عسقلان، الأرض المقدسة المباركة التي أخرج منها والدي وأجدادي في النكبة {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} آل عمران 195. من وسط الحطام والركام الممتد على مرمى البصر ألتقط إشارة عسقلان التي هي على مرمى البصر، وأتمتم الدعاء الذي لم ينقطع بل وزاد الأمل واليقين بحقيقته مع الطوفان والمحرقة: عائد وعائد وعائد.
أتنسم الهواء الرطب القادم من هناك "نسم يا هوى الشمالي وصل الرسالة". هواء عليل جميل، نسمته رقيقة مذاقه خاص غريب. هل هو مجرد شعور نفسي أم حقيقة؟ هواء عسقلان مختلف، إنه خير رباطكم بنص حديث النبي ﷺ، أنه الراية الأنصع والأجلى للحق التي لا خلاف عليها، وأنتم تتكادمون وتضيع البوصلة عليكم بالجهاد، وخير جهادكم الرباط، وخير رباطكم عسقلان. إنهم الذين بكاهم رسول الله ﷺ حين وقف على البقيع يبكي، تسأله عائشة رضي الله عنها عن سبب البكاء، فيقول: "أبكي شهداء مقبرة عسقلان"، أربعون ألفًا، وفي حديث خمسون ألفًا، وفي ثالث سبعون ألفًا.
نعم، أرحل كل يوم بل كل لحظة إليها، داعيًا الله تعالى العودة بفتح قريب، وأن يحتضنني تربها. نعم، عيوننا وقلوبنا وأرواحنا ترحل إليك يا عسقلان ونحن نحيا معنى الرباط بأجلى صوره وأعظمها في شمال غزة {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} آل عمران 200. متشوقًا أمضي في ذات الطريق من الجنوب إلى الشمال، حيث كان الخطاب للمؤمنين من بني إسرائيل {ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَ} المائدة 21، واسمعه خطابًا لي شخصيًا ولجيلي المنكوب الذي أشرف بالانتماء له (جيل التغيير)، وللجيل الثالث الذي صنعه الله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} طه 39 من الأبناء (جيل التحرير). لاهتف بملء الفم: نعم (أنا العسقلاني ولها عائد)، ولا فخر، فالفضل كله لله جل جلاله.
يا عسقلان... أنتِ وعد الله في قلبي، وأنا العائد إليك بحب لا يذبل ويقين لا يضعف.

