فلسطين أون لاين

تحديدًا قبل وعد بلفور..

في أواخر الحقبة العثمانية هكذا كان حال فلسطين

...
غزة - فاطمة الزهراء العويني

مرت مائة عام على وعدٍ مشؤوم هو سبب كل النكبات التي يعانيها الشعب الفلسطيني حتى اليوم، وما زالت فلسطين بأكملها تعاني من ويلات ذلك الوعد الذي حرم أهلها من أرضهم ليمنحها لمرتزقةٍ غرباء دينٍ ووطنٍ وهوية أقاموا في البلاد دولتهم المزعومة.

من خلال عيون المؤرخين؛ "فلسطين" تُلقي الضوء على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ما قبل "وعد مَن لا يملك لمن لا يستحق" في أواخر الخلافة العثمانية.

الرجل المريض

يقول المؤرخ حسام أبو النصر: "قبل وعد بلفور كانت الدولة العثمانية تحكم فلسطين، وكانت في أواخر حكمها أو ما أطلق عليها فترة "الرجل المريض".

وأوضح ذلك قائلًا: "كان على رأس الدولة العثمانية في تلك الفترة السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يمر بفترة عصيبة لوجود أحزاب مناهضة له في مناطق نفوذه، وحركة صهيونية تحاول تقويض حكمه للسيطرة على فلسطين إذ كان مصممًا على عدم التنازل عن شبرٍ منها".

وفي سؤاله عن شكل الحياة في فلسطين في تلك الفترة، يقول أبو النصر: "كانت فلسطين تعيش حضارة كاملة والمخطوطات والصور القديمة تثبت ذلك، إذ كان يوجد فيها اتصالات وحركة تجارية نشطة، ومواصلات، وكان فيها نشاط عمراني كبير؛ حيث بنَت الدولة العثمانية سور البلدة القديمة بالقدس، بجانب المباني والسكك الحديدية والبريد وغيرها في المدن المختلفة".

وأشار في الوقت ذاته، إلى أن وعد بلفور لم يكنْ الأول لبريطانيا بل سبقه مراسلات للحركة الصهيونية تحمل نفس الوعد، ثم توّجت بوعد بلفور نوفمبر 1917 الذي تلاه بسنوات تحرك العصابات الصهيونية في فلسطين وإعلان دولة الاحتلال في عام 1948م".

وأشار أبو النصر إلى أن الحركة الصهيونية كانت تتحرك على أرض فلسطين بالتوازي مع تحركات لها في أوروبا وأمريكا، فكان وعد نابليون بونابرت الأول للصهاينة خلال حملته في عام 1798 بإقامة وطنٍ لهم في فلسطين؛ لكن انهياره أمام مقاومة أحمد باشا الجزار في عكا لم يمكنه من تنفيذه، تلاها وعود أخرى للصهاينة.

ولإلقاء نظرة على الحالة السياسية والحزبية في فلسطين ما قبل بلفور، قال أبو النصر: "لم يكن هناك أحزاب سياسية وربما يرجع ذلك لأن الشعب لم يكن يعدّ الحكم العثماني احتلالًا بل هو امتداد للحكم الإسلامي، فلذلك لم يكن هناك حالة حزبية لأنه لا نية لدى الفلسطينيين لمقاومة العثمانيين، وإنْ ظهرت بعض الأحزاب الفلسطينية تتبع النشاط العثماني وليس فلسطين وهناك شخصيات فلسطينية انخرطت في الأحزاب العثمانية أو العربية عامة.

مرحلة انتقالية

ويقول أبو النصر: "كان الحكم العثماني مركزيًا ويعيّن من خلاله والٍ لكل منطقة وقد نشأت في أواخره بعض الحركات المناوئة له في تركيا، لكن في فلسطين لم يكن هناك نشوء لأي حركات لافتة، وإن كانت قد برزت شخصيات دينية واعتبارية دون تشكيلات حزبية واضحة".

وتابع: "الفترة ما بين انهيار الحكم العثماني ودخول الانتداب مرحلة انتقالية لم يكن فيها نضوج لحركة مقاومة؛ لأن الفلسطينيين كانوا غير مدركين بعد؛ لما يحدث على الأرض من أطماع".

ولفت إلى أن فلسطين كغيرها من الدول كانت تخضع للدولة العثمانية، وبالتالي لم يكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يتسم بالتطور، صحيح أن الحراك الاجتماعي والثقافي كان موجودًا، لكنها لا تصنف كدولة متطورة بل نامية".

وأشار إلى وجود حركة تجارية نشطة في فلسطين فكان هناك بعض المصانع، وفي موانئ يافا وحيفا وغزة التي يُعد سوقها من أقدم الأسواق الفلسطينية، حيث كانت تمر بها رحلتا الشتاء والصيف"، وكان يصدر برتقال يافا وصابون نابلس وقمح فلسطين.

ولفت إلى أن فلسطين كانت مقسمة إداريًا إلى "سناجق" و"متصرفيات" ولواءات "تقسيمات إدارية" حيث يشمل كل سنجق مدينة رئيسة ومجموعة من القرى حولها، وتتركز الخدمات الأساسية كالمستوصفات والمدارس في المدن الرئيسة فيما يوجد في القرى "كُتاب" لتعليم الأطفال فيها، فالقرى كان عدد سكانها قليلًا وتعتمد على الفلاحة والزراعة خاصة في الساحلية منها.

وقال: "كانت دائرة المعارف العثمانية هي المسؤولة عن التعليم وهي توزع المعلمين في المدارس، إلى جانب ظهور حركة فكرية في حيفا ويافا بعد ظهور المطابع".

عناوين جيدة بمضمون سيئ

بدوره؛ كان للمؤرخ سليم المبيض نظرة مغايرة إلى حدٍ ما عن سابقه فيما يتعلق بأواخر الحكم العثماني في فلسطين، إذ قال: "ساد فلسطين التسيب الأمني والانحلال الإداري والفوضى".

وأشار إلى أن تركيا كانت تعاني أشد المعاناة من الاحتلال الأوروبي الناعم المُتمثل في القناصل الأوروبيين (قناصل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا) والتي عملت على تذويب الكيان التركي داخل فلسطين.

وقال: "كانت تلك القنصليات تنادي الدولة العثمانية بضرورة التحسين من أحوال الناس وعمل دستور وتمكين المرأة وتوزيع الأراضي وضمان حرية الأديان؛ وإعطاء اليهود حقوقًا والسماح لهم ببناء مستوطنات، فكانت مطالبهم عناوين جيدة تحمل مضمونًا سيئًا".

وأشار إلى أن الجوانب الإدارية في غزة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت تكتنفها الصعوبات.

المجاعة تعم البلاد

وقال المبيض: "حدثتني امرأة عجوز عاشت تلك الحقبة أن النساء كن يسرن وراء البغال التي يستخدمها العساكر الأتراك ويجمعن روثهن، ويجففنه في الشمس، ثم يستخرجن منه القمح والشعير ويصنعن منه الخبز لأن المجاعة كانت تعم البلاد".

وأضاف: "كما قالت لي تلك المرأة أن النساء كن يجمعن "السلحلك" (حزام من القماش يلبسه العسكري على خصره، ويضع فيه الرصاص وبعدما يستخدم الرصاصات جميعًا يرميه) ويقصصنه إلى قطع ثم يربطن تلك القطع ببعضها بعضًا ويصنعن منها ثوبًا لهن".

وتابع: "كان الفلسطينيون يجمعون حيوانات العساكر الأتراك النافقة ويأكلون لحمها، حتى أن الأتراك أصبحوا يدفنون تلك الحيوانات فأخذ الناس يحفرون بحثًا عنها، ويأخذونها ويضعون لحمها في زجاجات ويبيعونها، فقد كانت هناك مجاعة شملت كل الشام كما تدل على ذلك صور من تلك الحقبة تظهر نساء متوفيات في حالة كبيرة من التردي والجوع فكن عبارة عن هيكل عَظمي".

وبين أن سبب كل ما سبق التدخل الصهيوني والأوروبي في شؤون الدولة التركية الذين كان لهم من الصولجان ما هو أقوى من الوالي التركي في فسطين، ما أهلهم في الحرب العالمية الأولى لإرسال بعثات للتجسس في فلسطين.

وقال: "عندما قامت الحرب العالمية الأولى أخذت تركيا كل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 حتى الـ60 عامًا، ولم يتركوا سوى النساء والشيوخ والأطفال، لذلك استطاع البريطانيون برغم المقاومة الشعبية الاستيلاء على فلسطين في عامي (1917و1918)".

وأضاف: "عشرات الدول الأوروبية كانت تحارب بجهودها تركيا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فجاءت بريطانيا اللعينة تحمل طابع الاحتلال البريطاني الأسود وكان احتلالًا مزدوجًا، حاملةً معها الخيانة متمثلة في وعد بلفور لليهود لطرد الفلسطينيين".

أفقر مستوى

وأردف المبيض قائلًا: "انعكست تلك الأوضاع على الحياة الاجتماعية في فلسطين، فقد كان المجتمع في أفقر مستوى له، ويعتمد على الزراعة تحت سيطرة الكثير من الإقطاعيين الذين يمتلكون أراضي شاسعة وواسعة".

وأشار إلى أنه لم يكن هناك تعليم يذكر، ففي القرى لم تكن هناك سوى كتاتيب، واقتصرت المدارس على المدن كمدرسة الرشدية في غزة، وقال: "خاصة أن غزة كان يسيطر عليها التورانيون (أتراك يكرهون العرب بتحريض من الصهاينة)".

وتابع: "كان أهل غزة يعانون فقرًا مدقعًا والتعليم شبه معدوم باستثناء بعض الأسر الموسرة التي ترسل أبناءها للدراسة في الأزهر الشريف في مصر أو إلى إسطنبول لدراسة الحقوق".

ووصف المبيض الأوضاع فيما بعد أن "الأحوال كانت تشي بالبؤس سوى بيوت الأغنياء التي كانت مبنية في الأحياء العلوية من غزة (غزة القديمة فوق التلة)، بينما كان الوضع التجاري بائسًا تتركز على تصدير القمح والشعير اللذين كانا يزرعان جنوب فلسطين، ومادة الحنظل التي تدخل في تركيب الأدوية.

وكانت الطبقية –وفق ما يشرح المبيض– تسود الوضع الاجتماعي في فلسطين إذ كان الأغنياء طبقة محدودة جدًا، بينما كان بقية الشعب من البسطاء الكادحين.

ورغم ذلك فقد كان للفلسطينيين باع كبير في الحياة العسكرية، إذ كانت تركيا تعتمد كثيرًا على العساكر الفلسطينيين، ويدلل على ذلك قول السلطات عبد الحميد الثاني لهرتسل، "كيف تريدني أن أعطيك من أراضي فلسطين، ولدي أربع ألوية فلسطينية في شرق اليونان تدافع عن الأراضي التركية؟".

وأكمل المبيض حديثه في السياق نفسه: "لقد وصل العساكر الفلسطينيون اليونان وشبه جزيرة القرم وحول باريس؛ وكان لفلسطين نواب في مجلس المبعوثان التركي (بمثابة مجلس النواب) في إسطنبول".