حلَّت مئوية وعد بلفور، لكن الاعتذار البريطاني عنه لا يزال بعيدًا كما يرى رئيس مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات د. محسن صالح، وهو ما يفرض اتخاذ خطوات تدفع إلى تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني.
"نحن بحاجة إلى حملة وطنية وشعبية والتعاون مع القوى الحية في العالم العربي والإسلامي والدولي، الذي ينصر الحق الفلسطيني"، يقول صالح لصحيفة "فلسطين" عن الوسيلة الملائمة لدفع بريطانيا للاعتذار، مضيفًا أن الحملة لا بد أن تكون شعبية ورسمية تتكاتف بشكل منهجي.
لكن صالح -الذي حرر أكثر من 60 كتابًا معظمها في الشأن الفلسطيني- يعرب عن أسفه لأن ذلك "غير متحقق حتى الآن وإنْ كانت هناك بعض الأنشطة التي نقدرها"، معتبرًا أن قيادة منظمة التحرير "لم تأخذ الموضوع بشكل جاد ومنهجي".
ويرجع ذلك لكون اتفاقيات أوسلو اعترفت "بالكيان الإسرائيلي الذي احتل معظم فلسطين"، مبينًا أن ذلك يحدّ من قدرة منظمة التحرير على مطالبة بريطانيا بالاعتذار.
ويرى أن الجهود الرسمية الفلسطينية "لا يمكن تصنيفها في إطار حقيقي جاد ومنهجي، وما هو مطلوب أوسع بكثير مما هو موجود على الأرض".
وسبق لمنظمة التحرير أن طالبت بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور الذي مهد لإنشاء (إسرائيل) على أرض فلسطين. وهذا الوعد هو الاسم الشائع للرسالة التي بعثها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 إلى اللورد اليهودي ليونيل وولتر دي روتشيلد، يقول فيها: إن الحكومة البريطانية ستبذل جهدها لإنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين.
ويوضح صالح، أن محكمة العدل الدولية لها ولاية متعلقة بالجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وما يمارسه الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه لا يعتقد أن بإمكان المحكمة النظر في احتلال الأراضي الفلسطينية سنة 1948م كنتيجة لوعد بلفور.
ويشير إلى أن مقاضاة بريطانيا "يصعُب، لأن البريطانيين جعلوا وعد بلفور ضمن استحقاقات صك الانتداب، ووضعوا القرار في مستقبل فلسطين ضمن الأمم المتحدة؛ فالأمر هو تحدٍ كبير".
ويفسر بأن لندن "شرعنت وعد بلفور وأعطته غطاء دوليا بالتالي محاصرة البريطانيين في هذه الزاوية تحتاج إلى جهد قانوني وإجرائي كبير".
وبناء على ذلك، يعتقد صالح أن بريطانيا لن تعتذر عن وعد بلفور "في المدى القريب أو المتوسط، لكن يجب بدء العمل لتحقيق ذلك حتى يتم حشرها في الزاوية"، منوها إلى أن "المشكلة أن الإطار الدولي الموجود بشكل عام يعترف بالكيان الإسرائيلي".
ويبين أن الطبقة السياسية البريطانية الحاكمة "بعيدة تمامًا عن فكرة الاعتذار، الذي لا يمثل لها قضية أساسية في نقاشاتها".
التعويض
ومن ناحية سياسية واستراتيجية ومصلحية –والكلام لا يزال لصالح- فإن لندن تخشى من دفع أثمان الاعتذار عن وعد بلفور، لأن من شأنه أن يرتب عليها تعويض الشعب الفلسطيني عن المآسي التي عانى منها، وتحمل المسؤولية الأخلاقية عن ذلك.
كما أن الاعتذار، برأيه، يعني أن على بريطانيا تغيير سياساتها ودعم الدولة الفلسطينية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، كما أنه يعني الاعتراف بأن إنشاء الكيان الإسرائيلي كان خطأ، وبالتالي سحب "شرعنة هذا الكيان".
وينوه صالح إلى أن "اللوبي الصهيوني ما زال قويًّا جدًّا في بريطانيا وباقي الكرة الأرضية، بالتالي هذا أمر ليس سهلًا"، لافتًا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية سيرفضون الاعتذار.
ويعتقد أن الأوساط الشعبية البريطانية لم يتشكل فيها بعد "وعي كافٍ عن مسؤولية بريطانيا تجاه الكارثة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني"، مرجعًا ذلك إلى أسباب منها ثقافية والتعاطف مع فكرة ما يسمى "عودة اليهود لفلسطين"؛ وفق الزعم البريطاني.
في السياق، يصف صالح الوضع الفلسطيني والعربي بأنه "ضعيف ومشرذم لا يملك أدوات ضغط كافية حقيقية لتغيير قناعة السياسي البريطاني، ولا حتى لتغيير القناعات الشعبية البريطانية التي تحتاج لجهد كبير".
ومع عدم توقعه اعتذارًا بريطانيًا قريبًا، يؤكد صالح أن هذا لا يعني التوقف عن بذل الجهود، "لأن رحلة الألف ميل تبدأ بميل"، موضحًا أن الجهود يمكن أن تثمر لكنها بحاجة لعمل منهجي.
وردًّا على سؤال: كيف يبدو وضع القضية الفلسطينية بعد 100 سنة على وعد بلفور؟، يجيب: "نتحدث عن 100 سنة من وعد بلفور وأكثر من 120 سنة على المشروع الصهيوني ومع ذلك فإن الشعب الفلسطيني مازال موجودا وصامدا على أرضه، وأيضًا مازال نصف الشعب الفلسطيني في الخارج يطالب بحق العودة".
"تمكنا من الحفاظ على القضية الفلسطينية وعلى هويتنا الوطنية وعلى بوصلتنا تجاه فلسطين، ولا تزال قوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج حية، وقوى المقاومة هي الأقوى على الأرض، وصمود الفلسطينيين بعد 100 سنة على وعد بلفور لا يزال في عنفوانه، وبالتالي هم (الصهاينة والبريطانيون) فشلوا في إلغاء الشعب الفلسطيني وتذويب حقوقه، بالتالي القضية الفلسطينية مازالت حاضرة وقوية"، يواصل حديثه.
كما أن المشروع الصهيوني –بحسب صالح- يواجه مخاطر كبيرة، قائلا: "الكيان الصهيوني يتم التعامل معه باعتباره كيانا غير طبيعي في المنطقة".
ويضيف: "شعوب المنطقة بشكل عام ترفض التعامل مع الكيان الصهيوني بالرغم من أن بعض الأنظمة تتعامل معه رسميا".
ويؤكد صالح أن ثمة أزمة يواجهها الكيان الإسرائيلي، "الذي لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الدعم الدولي، ولم يتحول لكيان طبيعي في المنطقة، وهذا يجعله غير مستقر".
ويشدد على أن أمام القضية الفلسطينية مستقبلا، مبينا أن الأجيال تتدافع باتجاه تحرير فلسطين.
لكنه يتابع: "الأمل كبير، في المقابل نحن نعلم أن واقعنا غاية في الصعوبة فهناك انقسام فلسطيني وتشرذم عربي، لكن في النهاية نعلم أيضًا أن هناك وعيا وارتفاعا في دائرة دعم الشعب الفلسطيني".
المقاومة
وبشأن البرنامج السياسي الفلسطيني المأمول تبنيه بعد تحقيق المصالحة الوطنية، يوضح صالح أن الأساس في المصالحة هو الشراكة الحقيقية، "وألا يتعامل طرف مع الآخر باعتبار أن هناك طرفا خاسرا ومنتصرا".
ويقول صالح، إن الشراكة تعني فتح أبواب السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لجميع أبناء الشعب الفلسطيني كافة فصائلهم وقواهم الحية، بحيث يتم إعادة بناء المنظمة على أسس جديدة تمثل كافة أطياف الشعب وفق أحجامهم الحقيقية وليس وفق دوائر نفوذ معينة أو تأثير خارجي معين، وفق وصفه.
ويضيف: "إذا توافقنا على هذه الشراكة فهذا معناه وجوب مراجعة السياسة الفلسطينية في الـ25 سنة الماضية، والدور الحالي الذي تقوم به السلطة، لنرى كيف يتم التعامل مع الكيان الصهيوني ومراجعة اتفاق أوسلو وبناء على ذلك نتفق على الثوابت الفلسطينية التي لا يمكن التنازل عنها".
ويشير إلى ضرورة أن "نتفق أيضًا على أولويات المشروع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة وعلى برنامج سياسي نجتمع عليه بالحد الأدنى في الفترة الراهنة".
وينوه إلى ضرورة حل الخلافات والقضايا تحت مظلة واحدة "هي الآن منظمة التحرير؛ بحيث نتفق على أن يكون بيننا تداول سلمي للسلطة وأن يتم احترام إرادة الشعب الفلسطيني (في الانتخابات)، وألا تأتي إملاءات من الخارج؛ إسرائيلية أو غيرها".
ويتمم رئيس مركز الزيتونة: "هذا يعني بالنسبة لنا أن تكون المقاومة أساسية في جوهر عمل وفكر الشعب الفلسطيني طالما بقي الاحتلال".