تجاعيدهم التي خطها الزمن على جباههم وملامح وجوههم، لا تزال تحتفظ بين طياتها ذكريات الوعد الأكثر بشاعةً في حياتهم الطويلة والمرهقة، أولئك الشيوخ والمسنون الذين هاجروا تاركين وراءهم أراضيهم ومدنهم التي ولدوا فيها، لم ترهق أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948 والنكبات التي تبعتها ذاكرتهم لنسيان تفاصيل إصدار وعد بلفور المشؤوم الذي منح اليهود حقاً باطلاً بإقامة وطن قومي لليهود على أطلال الحياة الفلسطينية التي كانت يوماً ما هناك.
ووعد بلفور هو الاسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني آنذاك، بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
حين صدر هذا الوعد كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني فلسطين، ليعتبر هذا الوعد "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".
خديعة بريطانية
الحاج أبو شريف العشي المولود في عام 1932 في مدينة المجدل المحتلة، لا يزال يذكر كيف استطاعت الحكومة البريطانية تمرير وعد بلفور على الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في مدن الداخل المحتل عام 1948، من خلال الخديعة والحيلة والكذب على العقول.
يقول العشي لصحيفة "فلسطين": "عندما كنت فتى يافعا وتحديداً عندما كنت أبلغ (14 عاماً) كان الفلسطينيون سكان المجدل ينظمون تظاهرة أسبوعية أمام مقر الحاكم العسكري البريطاني في المجدل رفضاً لوعد بلفور، وكان الناس غاضبين جداً، ولا زالت صرخات الثائرين والغاضبين من هذا الوعد تصدح في أذني حتى هذا اليوم".
وكان يسكن المجدل قبل النكبة الفلسطينية زهاء 13 ألف نسمة.
ويوضح أن المواطنين كانوا خلال هذه التظاهرات يحملون الشعارات التي تطالب بإسقاط وعد بلفور، وعدم منح اليهود وطناً في فلسطين، ويرددون هتافات تطالب بإنهاء الاحتلال البريطاني للأراضي الفلسطينية.
وفي إحدى تلك التظاهرات أمام مقر الحاكم العسكري البريطاني، وعلى غير عادة ما يجري في كل مرة، خرج الحاكم العسكري من مقره واعتلى منصةً أمام المواطنين المتظاهرين والتقاط ميكروفون وبدأ يخاطبهم، بحسب العشي.
ويضيف: "قال الحاكم العسكري موجهاً حديثه للغاضبين، أيها الناس لا يوجد ما يستدعي خروجكم بهذه التظاهرة، فوعد بلفور سقط مع رحيل صاحبه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (توفي عام 1930)، واليوم لا يوجد هناك شيء يسمى وعد بلفور ولا يوجد ما يهدد بقاءكم على أرضكم، وأنا هنا اليوم لأردد معكم (يسقط يسقط وعد بلفور) وأصبح يرددها مراراً وتكراراً إلى جانب المتظاهرين".
وتابع العشي: "إن كلمات الحاكم العسكري نزلت كالثلج على صدور المتظاهرين الذين كانوا يشتعلون غضباً، وبعد سماع هذه الكلمات هدأ الفلسطينيون وبدؤوا ينسحبون من التظاهرة، ولم تعد تنظم بعد ذلك اليوم إذ كانت كلمات هذا الحاكم مقنعة بالنسبة إليهم".
ويوضح أن ثمة جانبا من الفلسطينيين لم يصدقوا ما قاله الحاكم العسكري لاعتباره شخصاً محتلاً لأراضينا الفلسطينية وأصبحوا يحاولون تعبئة الجماهير لاستمرار الاعتصام والتظاهر رفضاً لهذا الوعد وحتى رحيل الاحتلال البريطاني، ولكن انضم لهم القليل من الناس لانشغالهم بالتجارة والصناعة التي كانت مفتوحة على العالم بشكل كبير.
وأكمل الحاج العشي حديثه: "لم يمض عامان على هذه الحادثة، حتى تبين كذب الحاكم العسكري، حيث بدأت القوات البريطانية بالرحيل منفذة لوعدها لليهود بتهيئة الأجواء لبدء الاحتلال الإسرائيلي والصهيوني للأراضي الفلسطينية وما تبع ذلك من مجازر ومذابح لإرغام الفلسطينيين على ترك أراضيهم وبلداتهم وقراهم ومدنهم لليهود المحتلين".
حدث غير متوقع
ويتحدث الحاج أبو باسل النجار (83 عاماً) الذي يعيش في مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، عن صدى وعد بلفور على سكان مدينته يافا التي هاجر منها وعائلته عام 1948.
يقول النجار لصحيفة "فلسطين": "كان الفلسطينيون في مدينة يافا ومن يسكن المدن بشكل عام، متعلمون وأصحاب وعي وفكر ولم يكونوا جهلاء أو غير مدركين، كما تروج بعض الروايات، فكان هناك فهم وإدراك متنامٍ حول المخاطر التي تحدق بالفلسطينيين، فكان خطباء المساجد يتحدثون دوماً في خطب الجمعة عن وعد بلفور وتبعاته، كما كان أصحاب الرأي والوجهاء والأعيان ينظمون جلسات عشائرية لتوضيح تداعياته هذا الوعد على حياة الفلسطينيين وعلى أراضيهم وممتلكاتهم".
وكان يسكن في مدينة يافا قبل النكبة الفلسطينية نحو 75 ألف نسمة.
ويوضح النجار أن الناس هناك كانوا غير متخيلين أن يأتي شخص ما مدجج بالسلاح ويأمرهم بمغادرة أراضيهم التي تربوا فيها وأكلوا من خيرها طيلة حياتهم، كون هذا الفعل هو من أفعال اللصوص وليس الحكومات أو الجيوش.
ويضيف: "كانت هناك قناعة سائدة أن أي شخص سيطلب منهم مثل هذا الطلب سيقابلونه بالبارود والدم، ولم يكن هناك أحد متوقع أن يترك أرضه ليستولي عليها غيره".
ولا يزال النجار يذكر كيف كان والده الذي كان يعمل مزارعاً، يتابع عن كثب الأخبار المتعلقة بوعد بلفور الواردة في صحيفة "فلسطين" التي كانت تصدر في مدينة يافا قبل النكبة عام 1948، وقال: "كانت هذه الصحيفة تباع على أرصفة مدينة يافا، وكان لديها مطابعها الخاصة، وكان والدي يذهب إلى المطبعة كل يوم من أجل شرائها ولا ينتظر انتشارها في الأسواق".
ويبيّن أن وعد بلفور كان بمثابة هاجس يؤرق حياة المواطنين الذين لم يكونوا يصدقون جديته، ويعتبرونه شبحاً يطل عليهم دون القدرة على إيذائهم، وقال: "كان لسان حال المزارع يقول (أنا أعيش في أرضي التي تعيلني وعائلتي ولا أؤذي أحداً ولا أنغمس في السياسة، فمن يرغب في إخراج شخص مثلي من أرضه)".
وتابع النجار: "الكثير من المواطنين اكتشفوا متأخرين أن الصراع مع اليهود هو صراع وجودي وليس دينيا فقط، وأن اليهود طامعون في الاستيلاء على أرضنا، كامل أرضنا الفلسطينية".
ويلفت النظر إلى أن تبعات وعد بلفور بدأت تتجسد أمام سكان مدينة يافا، عقب رحيل القوات البريطانية التي مكنت العصابات الصهيونية من خلال مدها بالسلاح الذي استخدمته لقتل الفلسطينيين ولدفعهم نحو الهجرة وترك أراضيهم وممتلكاتهم، وللاستيلاء على فلسطين وتأسيس الكيان الإسرائيلي الذي كان قد وعد به بلفور عام 1917.

