تضررنا كثيرًا من الانقسام. هذه حقيقة. لا حاجة ولا منفعة في تكرار سرد وتبويب خسائرنا في هذه التجربة الكئيبة التي مر بها شعبنا. لكن: أليس هناك، بالمطلق، خطر ان نتضرر من المصالحة؟ أُحيلكم إلى الاطلاع على تنبؤات «نبي التشاؤم»، الكاتب صابر عارف، الذي عدد في احد مقالاته الاخيرة، اسباب رفضه لاتفاقية المصالحة في نقاط محددة، وانتهى إلى التشاؤم مما هو قادم نتيجة هذا التطور السلبي، في نظره، والبالغ الايجابية، في نظري. اما صابر نفسه، فأُحيله إلى آخر كتاب أصدره الراحل، د. تيسير العاروري، وعنوانه: «الهزائم ليست قَدَراً». فتحت المصالحة للشعب الفلسطيني، من جديد، ابوابا تطل على محطات ايجابية كثيرة يمكن بلوغها: اعادة الاعتبار للشرعيات الفلسطينية؛ وامكانية تحديد مواعيد قريبة لإجراء الانتخابات على كافة المستويات؛ وعقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي يمثل جميع ابناء الشعب الفلسطيني، وتتمثل فيه جميع قطاعات الشعب الفلسطيني وقواه في جميع اماكن تواجده، في الوطن وفي دول اللجوء والشتات؛ وغير ذلك.
لكن ما هو اهم من ذلك بكثير، ان انطلاقة المصالحة، بعد كبوة الانقسام ومراراتها، خلقت اجواء ملائمة تماما، لإطلاق مشاريع وطنية عملاقة، بعيدة كل البعد عن قضايا السياسة الصغيرة، والمماحكات بين الاحزاب والحركات والفصائل الفلسطينية. بعيدة عن قضايا «المفاوضات» والمفاوضين الصغار والكبار. بعيدة عن اللجان العليا والسفلى، الوطنية والحزبية والتنظيمية. بعيدة عن الهموم الحياتية اليومية الروتينية البسيطة لبسطاء الفلسطينيين.
دعونا نستفيد من اجواء النشوة الفلسطينية بإنجاز المصالحة، وما اطلقته من فرح وتفاؤل عمّ الغالبية العظمى من ابناء شعبنا، إلى وضع احجار اساس، لمشاريع فلسطينية بالغة الطموح، قابلة للتحقيق، تستند إلى قرارات فلسطينية وطنية، وتتوفر امكانية انجازها بقدرات فلسطينية ذاتية، تنظر إلى الواقع والحاضر بعين العارف المدقق، وتنظر إلى المستقبل بعين الطامح الواثق.
لا مجال ولا امكانية لإحداث أي تعديل على الماضي الذي اصبح تاريخا. اما الواقع فيمكن تعديله إلى حد ما. واما المستقبل فيمكن خلقه بوضع حجر اساس، حتى ولو كان متواضعا. ولقد صدق بتصوير ذلك الزعيم الصيني الكبير، ماو تسي تونغ، عندما اوجز نظريته بمقولته المعروفة: «مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة».
منعاً للإطالة والإسهاب، اعرض فيما يلي ثلاثة اقتراحات مشاريع وطنية عامة،(واحدها مكرر)، في ثلاثة بنود:
البند الاول: التعليم: حجر الاساس في التعليم هو الصف الأول. هو الإنسان الخام الذي نملك القدرة الكاملة على تشكيله، علميا واخلاقيا. وهو الانسان الذي تضع الشعوب والمجتمعات العصرية خيرة ابنائها لتشكيله. ولسوء حظ المجتمعات والشعوب المتخلفة، (ونحن منها..لسوء حظنا)، فإنها توكل مهمة التشكيل لهذا الذي يمكن تسميته «المستقبل»، إلى الأكثر ضعفا، والأقل كفاءة. يبدأ ما أدعو اليه إلى اعتماد سياسة تقرر ان رواتب مُعلّمي الصف الاول ستكون ابتداء من هذا العام الدراسي تساوي رواتب مدير او مدير عام في الوزارة. بهذا نضمن منافسة بين الأكثر كفاءة لنيل هذه الوظيفة/ الرسالة، وتضمن كل عائلة فلسطينية ان طفلها بأيدٍ كفؤة امينة.
ويتكرر الأمر مع السنة الدراسية اللاحقة، وصولا إلى انتهاء مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي، والاستعداد عند عتبة الدراسة الجامعية الأكاديمية.
هذه السياسة الفلسطينية، في حال اعتمادها، تضع الشعب الفلسطيني، ربما بعد سبع سنوات، ولكن بعد اقل من عقد ونصف من الزمن، بالتأكيد، في مصافّ المجتمعات والشعوب والدول الأكثر تقدما في العالم.
هذا الامر يستدعي، بالضرورة، اجراءات ثورية في مناهج وكتب التعليم، وفي المبنى الهيكلي في وزارة التعليم، بدءاً من الوزير ذاته. [بالمناسبة: عندما كان حزب ميرتس الإسرائيلي هو الحزب الثاني في ائتلاف حكومة رابين، اصر زعيمه على تولي وزارة التعليم. واليوم، في حكومة نتنياهو، يتولى بانيت، زعيم حزب المفدال العنصري، وزارة التعليم في (إسرائيل)].
لا فائدة ولا حكمة في انكار وجود عبقريات اسرائيلية يهودية. لكن كل الفائدة والحكمة كامنة في العمل الجاد لإنشاء وتأهيل ورعاية عبقريات فلسطينية عربية تتحدى وتفوق مثيلاتها الاسرائيلية، لبناء فلسطين وليس لهدم الآخر، لتحصين فلسطين وضمان مستقبل مشرق لشعبها، ليساهم في بناء مستقبل افضل لعالمنا على طريق العلوم الحديثة والمستقبلية، وللمساهمة، من جديد، في بناء وتطوير الحضارة البشرية. وذلك ممكن بالتأكيد.
البند الثاني: الشباب: الفئة الثانية في سلم الاهمية، بعد فئة الاطفال والفِتية، هي فئة الشباب. ولا يضيرني هنا ان اعود مكررا ما اقترحته وعقدت من اجله ندوة في آب/اغسطس عام 2005، تحت عنوان: «الخدمة المدنية الإلزامية المتبادلة ـ 18/18». وجوهر الاقتراح والمشروع، هو اقرار قانون خدمة مدنية الزامية في كل موقع ومكان تحت سيطرة فلسطينية، لإلزام كل شابة وشاب يبلغ الـ18 من عمره بـ«خدمة مدنية الزامية» لمدة 18 شهرا، تشتمل على اعمال تحريش، ورعاية المعاقين والعجزة، ومحو الأُمية، والزراعة، وتدريب مهني، وتعليم لغات، ودورات في قضايا العلوم التكنولوجيا الحديثة، والاكثر حداثة ايضا، ودراسة تاريخنا الفلسطيني والعربي، والتعرف على جغرافية فلسطين، جبالها ووديانها وسهولها وسواحلها وقراها ومدنها. وتأكيد «التبادلية»، بالتنسيق مع الوزارات. مع وزارة التعليم العالي مثلا: اعتماد شهادة «الخدمة المدنية بمعادلتها مع ساعات تعليم اكاديمي قد تصل إلى فصلين اكاديميين مثلا. ومع وزارة المواصلات: اشتراط الحصول على رخصة لقيادة حافلة ركاب، او حافلة نقل تلاميذ وطلاب مثلا، بالحصول على شهادة «الخدمة المدنية» وهكذا. واذا تعذر الزام الفتيات من الخدمة المدنية الإلزامية لمدة 18 شهرا، فيمكن تحويل ذلك، بالنسبة للإناث، بـ12 شهرا.
تمنع اتفاقية اوسلو منظمة التحرير (والشعب الفلسطيني)، من تشكيل جيش وفرض خدمة عسكرية الزامية. لكنها لا تمنعه من فرض خدمة مدنية الزامية، تعيد صهر ابناء وبنات الشعب الفلسطيني الذي قطعت النكبة وما تلاها وحدته وتكامله.
في جو المصالحة الفلسطينية الحالي، وما انتجته من تفاؤل وامل، يمكن البدء بتطبيق «الخدمة المدنية الإلزامية المتبادلة ـ 18/18» في كل قطاع غزة، وفي كل موقع تحت السيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية.
البند الثالث: الاقتصاد: ليس مقبولا، وليس منطقيا ان يكون همّ الحكومة الفلسطينية، ووزارة الاقتصاد فيها، تأمين رواتب الموظفين وقوات الأمن. لا بد من خلق جسم فلسطيني يتخصص في تأمين خطوات تضع حجر اساس لبناء اقتصاد فلسطيني نام وقابل للتطور والازدهار. ولا أرى أي عيب في التركيز على مطالبة (اسرائيل) بالتعويض على الشعب الفلسطيني، ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، عن الاملاك العامة مثلا، في الاراضي الفلسطينية التي استولت عليها في حرب العام 1948، ولم يكن الشعب الفلسطيني طرفا فيها، لأنه لم يكن قد استقل بعد من الانتداب/ الاستعمار البريطاني.
[وبالمناسبة: عندما حاول المحامون الفلسطينيون الثلاثة: يحيى حمودة، عزيز شحادة ومحمد نمر الهواري، ان يشاركوا في مدينة لوزان في سويسرا، في اجتماعات الاعداد لمفاوضات الهدنة التي عقدت لاحقا في جزيرة رودس اليونانية، بين الدول العربية المحيطة بـ(إسرائيل)، مصر والاردن وسوريا ولبنان، رفض موشي ديان، كما ذكر في مذكراته، ان يسمح لهم بالمشاركة، بذريعة انه يتفاوض مع دول حاربت (إسرائيل)].
هذا المدخل يفتح باب المطالبة بالتعويضات عن «الاملاك العامة» للشعب الفلسطيني في 27٪ من ارض فلسطين التي ضمتها (إسرائيل) ولم تكن ضمن ما حددته «الشرعية الدولية» لها في قرار التقسيم للعام 1947، وتدخل تحت هذا البند سكك الحديد والطرق المعبدة والموانئ والمراعي والبنى التحتية من كهرباء وماء وخطوط اتصالات واحراش وغيرها. يضاف إلى ذلك، فتح ملفات «الجنيه الفلسطيني»، والمبالغ المالية والامانات التي كانت مودعة في البنوك في فلسطين يوم 15.5.1948، لأفراد فلسطينيين ولمؤسسات فلسطينية (بلديات، شركات، مستشفيات، مدارس وغيرها) واستولت عليها (اسرائيل) بدون حق.
[هنا يجدر بي تسجيل ملاحظة ان كل ما تقدم لا يتطرق لقضايا اللاجئين الفلسطينيين كأفراد واملاكهم وحقوقهم].
فتحَت المصالحة الفلسطينية بابًا للأمل، وتولدت عنها ريح مواتية. دعونا لا نقصر فوائدها في قضايا سياسية وإجرائية صغيرة وآنية فهي مؤهلة لأن تعطي وتثمر أكثر من ذلك بكثير.
نكرر من جديد مع ماو تسي تونغ: رحلة الألف ميل، تبدأ بخطوة واحدة.