"سيارة البث" كانت المكان الذي قضى فيه الشهيد فيصل أبو القمصان معظم أيام الحرب، ينقل جرائم الإبادة الإسرائيلية على الهواء مباشرة ويحاول لفت أنظار العالم إلى المحرقة التي أكلت الأخضر واليابس، ولم يدر بخلده أن تكون السيارة ذاتها هي مكان استشهاده محترقًا بصواريخ الاحتلال الإسرائيلي، التي لم تتوقف عن استهداف الصحفيين بشكل هو الأكبر في تاريخ الحروب العالمية.
فرغم شعوره بالخوف من الاستهداف المتواصل لزملائه الصحفيين والصحفيات، إلا أن الشهيد أبو القمصان لم يترك الميدان وواصل نقل رسالته الصحفية، ليوصل للعالم جزءًا من جرائم الإبادة التي تُمارس بحق أهله في قطاع غزة.
فقد عشق أبو القمصان مهنة الصحافة منذ صغره، وهو الذي تمتع بشخصية قوية واجتماعية ولسان طليق. التحق بكلية الإعلام لدرجة الدبلوم ثم البكالوريوس، وكان يخطط للحصول على درجة الماجستير، لكن القدر لم يمهله طويلًا.
وإذ كانت عائلته فخورة بالصعود السريع لابنها الشاب، آخر العنقود فيصل (27 عامًا)، في سلك الصحافة وحصوله على وظيفة في فضائية "القدس اليوم"، والرضا الكبير عن أدائه من قبل مرؤوسيه، إلا أن الحرب الإسرائيلية الحالية جعلت مشاعر الخوف على حياته أو تعرضه للإصابة تخيم على نفوسهم.
وعلى مقربة من مستشفى العودة (حيث يعمل شقيقه موسى كأخصائي تحاليل طبية)، استقر الحال بـ"فيصل" وزملائه لعدة أشهر في سيارة البث الخاصة بالفضائية، التي أصبحت مقرهم البديل في ظل تدمير الاحتلال لمقار المؤسسات الصحفية.
وهناك، كان موسى يرى شقيقه ليلًا ونهارًا. ويقول لـ "فلسطين أون لاين": "توطدت العلاقة بيني وبين أخي وزملائه، فقد كانوا يأتون إلى المستشفى للراحة والاستحمام. كنت أسهر مع شقيقي عندما يكون كلانا لديه مناوبة ليلية، وكانت جلسات السمر تلك تخفف عنا عناء العمل وتبدد، ولو قليلًا، جزءًا من مخاوف الحرب".
ورغم خشية موسى على شقيقه فيصل بسبب الاستهداف المتكرر للصحفيين، إلا أنه كان فخورًا باجتهاده ومثابرته لأداء رسالته الصحفية هو وزملاؤه، الذين أصبحوا يقضون معظم وقتهم في سيارة العمل.
ولم يدر بخلد موسى يومًا أن تكون تلك السيارة هي المكان الذي تنتهي فيه حياة شقيقه، إثر قصف إسرائيلي غادر أشعل النيران فيها، ليحترق "فيصل" وزملاؤه أمام أعين موسى دون أن يستطيع أن يفعل لهم شيئًا.
يقول بأسى: "سمعت صوت قصف قريب من المشفى، فوجئت بزميل لي يسألني عن فيصل، وهل أتى للدوام اليوم. عندما أجبته بالإيجاب احتضنني، فشعرت بأن شيئًا سيئًا قد حصل. هرعت تلقائيًا إلى مكان سيارة شقيقي، فوجدت النيران تلتهمها بمن فيها، ولا أحد يستطيع الاقتراب منها لقرابة نصف ساعة بسبب طائرات الاستطلاع التي ملأت المكان".
وبعد وقت مر على موسى كأنه سنوات وهو يشاهد أقسى ما يمكن أن يمر عليه في حياته، استخرج المنقذون "فيصل" وزملاءه وقد فارقوا الحياة محترقين!
وفي منزل العائلة، لم يسمح موسى لوالديه وشقيقه الثالث وزوجة فيصل وأبنائه بفتح الكفن أبدًا، خشية عليهم من قسوة المشهد. يقول: "آثرت أن تظل صورة فيصل، الابن البار والزوج الودود والصحفي الطموح والخطيب المفوه المحفّظ لكتاب الله، كما هي في عيون أحبائه، وألا يروا ما فعلت به نيران الحقد الإسرائيلية".
وفي غياب فيصل، يواجه موسى أسئلة قاسم (7 سنوات)، الابن البكر لفيصل، بأسى، فلا يستطيع تلبية طلبه بأن يرى والده. يقول: "لقد ترك فيصل قاسم وجنى وزوجته الحامل بعد أن كان يعمل بكل جد لاستكمال بناء شقته السكنية، وهو المشروع الذي بدأناه سويًا قبل الحرب أملًا في أن يوفر لهم مسكنًا مريحًا".