"استيقظتُ الساعة السابعة صباحًا، وجدتها متجمدة بلا علامات حياة" على هذا الحال تجمدت نظرات عدنان القصاص وهو يرى طفلته الرضيعة "عائشة" التي لم يتجاوز عمرها ثلاثة أسابيع متجمدة بلا حركة أو نبض لم يقوَ جسدها الصغيرة على مقاومة البرد، في وجه آخر للمعاناة والمأساة بسبب حرب الإبادة.
في خيمة تقع بشارع كوارع بمواصي محافظة خان يونس، لم تدرك الطفلة التي ولدت أواخر 28 نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، الواقع المأساوي المحيط بها، والذي جعل توفير "الدفء أمرًا مستحيلاً" يجد البرد ثقوبًا كثيرة للتسلل لداخل الخيمة ونخر عظام الأطفال وتجميد أطرافهم، رغم محاولة أمها تدفئتها بما يتوفر من أغطية.
لم تكن عائشة إلا واحدة من عدة حالات لأطفال رضع تجمدت أجسادهم الصغيرة بسبب البرد القارس، وتجسد واقعًا صعبًا يعيشه الأطفال في قطاع غزة مع انعدام الغذاء وظهور علامات سوء تغذية، واهتراء الخيام وعجزها عن توفير الدفء أمام البرد والرياح الشديدة، ما يهدد بموت أطفال آخرين.
في منطقة ذات مناخ صحراوي جاف، حيث تشتد البرودة مع ساعات الليل، وتؤدي لفقدان الرمال للحرارة، وفقدان الهواء فوق الأرض الحرارة كذلك فتتدنى بشكل كبير مع ساعات الليل، وتتحول الخيام لثلاجات باردة، ترتجف معها أجساد الأطفال التي لا تحتفظ بالحرارة مقارنة بالكبار، وتتجمد أطرافهم، فيصبح الرضع عرضة لخطر الموت من شدة البرد، كما حدث مع عائشة وقبلها سيلا الفصيح بنفس العمر والطريقة.
المأساة الثالثة
يروي والدها لصحيفة "فلسطين" بقلب مثقل بالفقد والحزن ما جرى قائلا: "كانت لحظات صادمة، عندما وجدت جسدها متجمدا، فتوجهت بها للنقطة الطبية في محيط مخيمنا، ومن ثم توجهنا لمستشفى ناصر وهناك حدد الطبيب الشرعي أنها توفيت بسبب البرد والمنخفض الجوي الذي تأثرت به المنطقة الجمعة الماضية".
لم يكن وفاة عائشة المأساة الأولى التي عاشتها العائلة، فبدأت المعاناة لحظة نزوحهم مطلع العام الجاري من منزلهم الواقع بمنطقة الشيخ ناصر شرق محافظة خان يونس بلا سابق إنذار، "يومها انهالت علينا الصواريخ، وخرجنا بملابس قليلة ولم نستطع حمل المقتنيات، وعندما رجعنا لنقل الأغراض وجدت البيت محترقًا بما فيه من ملابس وأمتعة وأثاث" يستذكر.
في إحدى الأمكنة المتاحة بشارع "كوارع" القريب من شاطئ بحر خان يونس، أنشأت العائلة خيمتها الأولى وكانت "أفضل حالاً من الخيمة الحالية" وإن كانت جميع الخيام تتحول لأفران حارقة في الصيف، وثلاجات باردة في الليل، لا تقي حرًا أو بردًا، ولا تمنح الشعور بالأمن والحياة الكريمة، تنغص القوارض والكلاب والحشرات حياتهم.
ورغم أن العائلة تكيفت على واقع مأساوي صعب فرض عليها قسرا بالعيش في خيمة بعد تدمير منزلها، لاحقها الاحتلال في مكان نزوحها، فكان 22 إبريل/ نيسان 2024 يومًا صعبًا استيقظ فيه القصاص على حريق لم يعشه حتى في منزله.
يتحرك المشهد الحي أمامه قادمًا من جيوب الذاكرة المثقلة بالألم: "قصف الاحتلال أرضًا بالمنطقة، واحترقت ثلاثين خيمة بينهم خيمتي، خرجنا أيضًا بلا شيء، حملت أطفالي الأربعة (أكبرهم يبلغ من العمر ست سنوات) ونجونا بهم، ويومها احترقت ما تبقى لنا من ملابس".
خيمة بالية
بملابس قليلة، وخيمة بالية بعد احتراق الخيمة الأولى بكل ما فيها، استقبلت العائلة الشتاء، بوضع معيشي صعب، واستقبلت "عائشة" التي كانت الأنثى الوحيدة بين أربعة أطفال ذكور، يتمم بأسى: "كانت فرحة منتظرة، رغم كل ما نعيشه من بؤس عيش وبرود طقس، وواقع مرير".
بلا سرير أطفال مخصص لها، أو ملابس كافية، أو حليب صناعي يساعد أمها المنهكة بسبب سوء التغذية، عاشت "عائشة" أيامها التي لم تكمل شهرها الأول في الحياة، لتغادرها سريعًا، في مشهدٍ يعكس قسوة الحياة للنازحين والتي لا توفر ظروفًا ملائمة للأطفال.
عن واقع مرير خلال الشتاء، يرافق القهر إجابته: "بعد الثامنة مساءًا لا نستطيع الخروج من الخيمة من شدة البرد، كما لا نستطيع استعمال المياه التي تكون متجمدة وتكسر العظام، كما لا تستطيع الخروج من تحت الأغطية وإلا سيداهمك البرد، كما لا يفارق أطفالي نزلات البرد والأمراض الصدرية وهذا حال يعيشه كافة السكان بالمنطقة".
بعد وفاة طفلته، وحتى لا تتكرر المأساة، يحاول القصاص توفير بعض الأغطية والنايلون لحماية أطفاله الأربعة من موجة برد ثانية، فبعدما كان كل طفل ينام تحت غطاء واحد، يتشارك الآن كل طفلين في غطائين مع اشتداد موجة البرد القارس والصقيع.
ومع ساعات الليل يتفقد القصاص أطفاله، ويقوم بإيقاظهم مرتين للتأكد أنهم بخير، وقبل نومهم يقوم بإجراء بعض تمارين الحركة لديهم لرفع درجة حرارة أجسادهم قبل النوم، ويتساءل بقهر: "ما ذنب أطفال رضع لم يتجاوزوا شهرا ليولدوا في ظروف تنعدم فيها مقومات الحياة؟.
ورغم أن القصاص وغيره من النازحين، كانوا يتوقعون عيش المأساة في فصل الشتاء، وأطلقوا نداءات استغاثة للمنظمات الدولية والإغاثية، لكن "لا حياة لمن تنادي"، "منذ خمسة أشهر لا يوجد أي مقومات حياة، الطعام كله من المعلبات والتكيات، المنطقة فقيرة جدًا" خاتمًا، برسالة إلى المنظمات الدولية بضرورة إدخال الإعانات المتكدسة على معبر رفح من أغطية وملابس وشوادر وخيام، لإغاثة النازحين المكلومين من شدة البرد.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، تسبب الاحتلال الإسرائيلي بأزمةٍ إنسانيةٍ مأساويةٍ تُهدد بموت آلاف النازحين بعد اهتراء 110,000 خيمة، تزامناً مع موجات الصقيع الشديدة.