فلسطين أون لاين

​نساء صغيرات

...
جباليا - حنان مطير

أجواء من الفرح تعمّ أهل الحارة، والمارّة، حتى الجارة "الختيارة" جاءت بعكّازِها الطويل تطلّ من باب "العريشة" بابتسامةٍ كشفت عن سنيها المخلوعين، فدغدغت الأنغامُ شبابَها الماضي وخصريها النحيلين للمشاركة، وإن لم تكن مدعوّة!

كان عرساً "جباليّاً" متفرّداً، كسر أصحابُه الروتين الخاص بالحفلات النسائية في الصالات الفاخرة.. نُصِبت "عريشةٌ" كبيرةٌ في الحارة لا يدخل إليها بصيص النور ولا عيون الرّجال.. صُفَّت الكراسي على الرمل.. ومُدّت "المشاطيح" الخشبية لتُشيّد "لوجاً" خاصاً بالعروسين.

ثلاث عرائس كالقمر، ترتدي كل منهن البدلة البيضاء والطرحة اللامعة، ومن حولهن مجموعة من النساء كأنهنّ النجوم، هذه تُعدّل طرحة العروس، وتلك ترتب مكياجها وغيرهنّ يقمن بالواجب.

عروس غزّة

لن تشعر للحظةٍ أن اثنتين منهنّ في عمر الـ "15 " و"16"، وأظنّ الفتاة في غزّة بعد أن تخرج من غرفة "الكوافير" تحتاج لـشيفرة كي تُعرّف! إنها تصبح "عروساً" متكاملةً مهما صغر سنّها، لكن بعض الحركات العفويّة كانت تسقط منهما سهواً فتبوح بطفولتهما.

مرت الساعة تلو الساعة دون كلل أو ملل، انتهى العرس وأصبحت العرائس في عش الزوجيّة، فقلتُ أزورهما أبارك لهما، وفي حقيبتي الدفتر والقلم... فلا بدّ من حكايةٍ مميزةٍ ترويها هاتان الطفلتان. لم يخيبني ظنّي، فإحداهما تأقلمت والأخرى تبكي صباح مساء، فطيف أمّها لا يغادرها، ولوعة الاشتياق تطارد قلبَها.

تقول والدة العريسين أم خالد أبو شعبان لـ"فلسطين": "أسبوع كامل وهي تبكي تريد أمّها بقربها، وأنا أخبرها أن هذه هي سنة الحياة، وأن اليوم يختلف عن الأمس، وأنها ستتأقلم مع الوقت..".

وماذا بعد؟! تبتسم العمّة وتقول: "خطبنا أختها، لابني الأصغر، لكن القاضي لم يوافق على كتب الكتاب لأن عمرها لم يتجاوز "14"، فحجزناها!!".

خطبتم الأصغر؟! ابتسمتُ بتعجب، وقلت: "أليست صغيرة جداً؟"، ردّت: "هذه عاداتُنا، فمنذ بلوغ 15 أو 16 عاماً تكون الفتاة جاهزة للزواج، إذا ما أتاها العريس المناسب لا نتراجع عن تزويجه".

بعد الفرح

مرّت الأيام، واقتربت من العام، وأُعيدت التجهيزات القديمة، من عريشةٍ ومشاطيح وكراسي على الرمل، وعمّ الفرحُ الحارَة من جديد، ووزعت الحناء وحنّت أم العريس ابنيها، وتزوج الأخوان الجديدان أخيراً، ثم مرّت ساعات الفرح سريعةً فحلّ الظلام وراح كلّ إلى مخدعه، وعادت الحياةُ إلى ما كانت عليه.. طبخٌ ونفخٌ وغسلٌ وعجين.. كنسٌ ومسحٌ وخبزٌ على الطّين..

يا له من مشهدٍ أسريّ دافئ، كنت عائدةً من عملي فلمحت نار فرن الطين تشتعل مقابل باب بيتهم المفتوح، وأصوات ضحكاتهم تتناثر فتصل صوبي.. تلاعب المشهدُ بفكري وزغزغت الضحكات حبر قلمي، وقلت أذهب إليهم، فتلك اللّمة تخفي بين ثناياها حكايات كثيرة من الحبّ والتواضع والبساطة، إنها الأحب لقلبي.

وكما توقّعت.. العرائس لم يعدن عرائس، بل صاحبات بيت، واحدة تضع الخبز ذا الشكل الدائري الكبير في الفرن، وأخرى تُقلّب وثالثة تمسح المخبوز من بعض الرّماد وتصفّه في أكياس، فيما العمّة حماتهنّ تشير إلى ابنها بدعم الفرن بالحطب، وإلى "كنَّتها" بقلب الرغيف وإلى الثالثة والرابعة والخامسة بأشياء أخرى، والكل يبدي السمع والطّاعة.

أجواء من الألفة تجمعهم بالرغم من الأخطاء المتكرّرة.. رغيف يسقط وآخر يُحرَق، لم ينفر فيهنّ زوجٌ ولا حماة، تجلس "الكِنّة" بسمة أبو شعبان، 16 عاماً، والتي أشرفت على شهرها الأخير في الحمل، أمام فرن الطين وتقذف الرغيف في الداخل، ثم تخفي ابتسامة حرجٍ وتقول: "الخبز فوق بعضه يا عمتي" وتقصد أنها غير قادرة على المواصلة، لتضحك عليها "سلفتُها" حنان أبو شعبان -15 عاماً- وهي بالقرابة أختُها، تضحك ضحكةً طويلةً وتميل للخلف كثيراً ثم تضرب كفيها ببعض، فتُضحكنا معها.

فيما يختار زوجُها الرغيف المحروق ويعطيه لأمّه ممازحاً:" شوفي يمّا.. هذا خبز الجيل الجديد"، فلم تردّ الأم إلا بابتسامةٍ، وتتعامل مع الموقف ببساطة وهدوء، وكأن شيئاً لم يحدث فتكشف في تصرّفها عن امرأةٍ عاقلة.

سيدة البيت

تقول أم خالد لفلسطين: "الحماةُ هي سيدة البيت، وهي من تديره فتجعله جنّة أو ناراً، ولو أنني أقسو على زوجات ابني لنفرنَ منّي، لكنني هنا كأمهنّ، أعلمهنّ وأساعدهنّ وأقف معهن في كل شيء، فهنّ صغيرات، ولم يفهمن الحياة بعد".

وتضيف: "هؤلاء الصغيرات مثل بناتي وأعزّ، فابنتي تعمر بيتا غير بيتي أما هؤلاء فهنّ من يعمرنَ بيتي".

وتحكي عن فرن الطين: "يوم الفرن هو أجمل الأيام، نعود فيه لأيام زمان وتراث زمان وعاداته، فيه تحلو اللّمَّة، والأكلة رغم التعب، نتناول طعاماً بنكهة البلاد مكونا من زيت وزعتر ودقّة وزيتون وبندورة، ونصنع الشاي ونتناوله إما في بيت الفرن أو تحت أشجار البيت".

ومنذ الصباح في الغالب تكون أم خالد قد قسّمت لزوجات أولادها كمية معينة من الطحين كل واحدة تعجن حصةً قليلة في وعاء، فحسب قولها: "عجن ما يقارب 100 رغيف صعب على واحدة".

أبناء أم خالد الذين يعملون في جرّ العربات وتوصيل البضاعة في السوق لتوفير لقمة العيش لا يتكبّرون على نسائهم في شيء، بل يرفقون بهنّ ويساعدونهنّ ويشاركونهنّ العمل يداً بيد.

لقمة البساطة

مرت ساعتان قبل أن أهمّ بالخروج، فذهب الابن الأكبر لأعلى البيت وأحضر بعض الزيتون والزيت والزعتر وحبات البندورة الطازجة وعاد ليتناوله مع خبز فرن الطين الساخن برفقة إخوته وزوجاتهم على طاولةٍ بسيطةٍ تحت أشجار الزيتون الفارعة.

التقطتُ لهم الصور وهم يتناولون الطعام البسيط بنهم ويتبادلون الحديث بكامل عفويته، لتزين كل لقطاتي تلك الضحكةُ الطفولية التي لم تغادر شفاه النساء الصغيرات، ودّعتهم وعدت لبيتي وعبق دخان الفرن يتشبّث بملابسي، بينما حمَلَت كل امرأةٍ منهنّ ربطةً من الخبز وذهبت به إلى بيتِها، فمن تشارك تحصل على حصّة ومن لا تشارك تبقى تأكلها الحسرة.