"بعد هزةٍ عنيفة بجدران المنزل، شعرت بنفسي أسقط للأسفل؛ لدقائق لم أستطع الرؤية بسبب الدخان والغبار". لم يدرك عبد الرحمن العروقي (22 عامًا) حقيقة ما جرى له بسبب غشاوة أحدث غبار كثيف منعته من الرؤية، إلا عندما استطاع إضاءة مصباح هاتفه بعد انقشاع الدخان ليجد الطابق السادس الذي كان فيه بعمارتهم السكنية والتي تؤوي 70 نازحًا قريبًا من الأرض بعد تدمير قصف إسرائيلي لأربع طبقات وبقاء طابق ونصف، الساعة التاسعة مساء 20 نوفمبر/ تشرين ثاني 2024 بحي "أبو سكندر" شمال مدينة غزة.
قبل القصف كان البيت يعجُّ بالحياة والحركة، يمتلئ رغم الوجع والدمار بالفرح بقدوم مواليد طال انتظارهم لسنوات عديدة، يتشاركون فيما بينهم لمواجهة التجويع، ينزحون ثم يعودون، يتألمون معًا، في حياة تشردٍ لم تنتهِ إلا عندما كتب الاحتلال نهايةً لها بإطلاق صاروخين من طائرة حربية لم يرحما كل ما تحمله طبقات المنزل من أرواح وأطفال ونساء وشيوخ، في مجزرة راح ضحيتها 22 شهيدًا من العائلة.
مثَّل بقاء طابق ونصف من المنزل طريق نجاة لمن هم في الطوابق السفلية، وخرجوا بجروهم وصدمتهم، كحال عبد الرحمن وكان أكثر الشهداء من الطابق الرابع، في لحظة وقف الشاب مذهولاً يصرخ على الجيران ويستغيث بسيارات الدفاع المدني التي يمنعها الاحتلال من التحرك ويستهدف طواقمها ما أخر عملية إجلاء المصابين وانتشال الشهداء.
"كان المشهد صعبًا جدًا، لم انتبه للرضوض التي أصبت بها، وبدأت بمساعدة المصابين الناجين بإزالة الركام الذي أستطيع إزالته، وكنا نخرج من سطح الجيران بسبب تدمير درج العمارة، عشنا لحظات مرعبة، المنطقة مخلاة، والمصابون ينزفون على الأرض حتى بدأ الجيران المتبقين بالمنطقة بالمساعدة ووصول سيارات الإسعاف" يروي عبد الرحمن لـ "فلسطين أون لاين" تفاصيل المجزرة الدامية.
يعيد تقليب المشاهد أمامه مضيفًا "وصلت فرق الدفاع المدني بعد أربعين دقيقة، بسبب خطورة التحرك وكون المنطقة مخلاة من عدد كبير من سكانها".
الجلسة الأخيرة
قبل القصف بعشر دقائق كان العروقي يجتمع بأخوته في لمة عائلية بعد نزوح لمخيم الشاطئ غرب المدينة ثم عادوا قبل عشرة أيام معتقدين "أن المنطقة أصبحت آمنة"، تخلل الجلسة العائلية الأخيرة أجواء فكاهية رغم مرارة العيش بين قصف ودمار وتشرد، ومتابع أخبار، الحزن على من فقد ذويهم.
بقربه كان شقيقه محمود أحمد العروقي (32 عاما) الذي رزق بمولوده أحمد (ستة أشهر) خلال الحرب بعد عشر سنوات من الانتظار، يحمل طفله الوليد بين ذراعيه، يحتضنه، يلاعبه، يتبادلان الضحكات والمناغاة، قبل أن يغفو الطفل على حضن والده، ثم نزل لشقته وغادر جلسة أخوته.
لم تدم فرحة "محمود" بمولوده الذي طال انتظاره، وقبله رزق بطفلته آمنة (عامان)، اكتمل معه بناء العائلة لترحل معًا في المجزرة، واستشهدت معه زوجته "سجى" ورحلت العائلة من السجل المدني.
يقول شقيقه الذي حاول حبس دموعه وهو يستحضر فرحة شقيقه "كان سعيدا جدا بقدوم طفله بعد سنوات من الانتظار، وأسماه أحمد على اسم أبي، وكان دائما يحمله ويتعلق قلبه به حتى آخر اللحظات، قال لي قبل استشهاده بلحظات عندما طلبت منه أن ينزله: "هذا قطعة من روحي، ما بقدر استغنى عنه" ثم نزلا ليستشهدا معا مع زوجته وأولاده".
وتساءل بقهر وعلامات استفهام لا إجابة لها في ضمير عالمي غارق في صمته: "ما ذنبه ليفقد طفله، وما ذنب هؤلاء الأطفال، وكيف يصمت العائلة على هكذا جرائم دموية!؟".
ضيفٌ غادر سريعًا
إضافة لمحمود وعائلته، استشهد شقيقه جهاد (27 عاما) وأصيبت زوجته وابنته، واستشهد شقيقه ساجد (17 عاما)، ومسحت عائلة ابن عمه محمود سليمان العروقي (28 عاما) من السجل المدني، بعدما استشهدت معه زوجته شيماء حجي (23 عاما) وأبناؤهم سليمان (5 أعوام) ومريم (3 أعوام)، وطفلهم الرضيع "سمير" الذي رزقوا به قبل أسبوع.
يتقلب الحزن مع شريط الفقد الماثل أمامه، قائلا عن عائلة ابن عمه: "قبل أسبوع هنأناه بقدوم مولوده "سمير" وكان يحمل اسم شقيقه بعد أربع سنوات من الانتظار، وجاء الطفل بفترة عصيبة وصعبة، بين حرب وتشرد وانتظار، فاختلطت المشاعر وكنا نود أن نفرح بالمواليد بظروفٍ أفضل".
حلَّ الطفل الوليد ضيفا على الدنيا لأسبوع، ملأ فيه قلب بوالده بفرحة منتظرة، وغطى صوت مناغاته الذي ملأ صدى أرجاء البيت على أصوات الطائرات التي لا تفارق سماء غزة، وعلى صوت قصفها.
عبد الرحمن نفسه لديه قصة وحكاية مع القصف، فهو حارس منتخب فلسطين للشباب لكرة القدم حرمته الحرب من ممارسة الرياضة، وانتزعت منه حلمه، وزادت على ذلك بقتل ثلاثة من أخوته وأبنائه وأبناء عمه.
لكل فرد كانت قصة مختلفة بعضهم كان يعيش الفرح الذي تحول لمأتم، وبعضهم كان يعيش الانتظار كحال أحمد جهاد العروقي الذي استشهد بالمجزرة ولم ير ابنه الوليد مع زوجته وبقية أبنائه المتواجدين جنوب القطاع وكان في شوق لرؤيتهم، واستشهد والده وأمه، وشقيقه سليمان والأخير بترت قدمه بداية الحرب واستشهد معهم.
أما الطفل عماد محمد عقل (عامان) وهو الناجي الوحيد من مجزرة استشهد فيها والده وأمه الحامل بشهرها التاسع في 16 مايو/ أيار 2024 بمعسكر جباليا، وهو حفيد عائلة العروقي من جهة الأم، لم يعش باليتم طويلا ليلتحق بعائلته التي مسحت من السجل المدني كذلك، لتقضي المجزرة على ثلاث عائلات مسحت من السجل المدني.
جاء عماد لبيت جدته، التي كانت أمًا ثانيةً له، حرسته من كل شيء وربته من حبات عيونها طيلة أربعة أشهر تحاول تعويضه عن غياب والديه، وتسهر كل العائلة على إسعاده، ليرحلوا معا، مشهد لم يغادر أبيات الشاعر "درويش" على لسان اللحظة الراهنة: "إذا سألوك عن غزة قل لهم: بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد".