قبل أن تشرق الشمس وتزقزق العصافير، لا صوت يعلو فوق أصوات أطفال مخيم النزوح وهم يتقمصون أدوار باعة أغلبهم مستجدون، وهي الممر الإجباري لافتتاح يومهم ولملء أوقات فراغ لا متناهية، مع فقدان مقاعد الدراسة.
يتنافسون في بيع وهمي للقرشلة التي يبلغ ثمن القطعة الواحدة منها شيقلين إن توفرت ولا يستطيعون في الواقع شراءها، و"أصابع زينب" المعروفة بـ"الحلب" التي تتكبر عليهم ولا يجدون مالا لتذوقها.
ذلك لأن مكونات القرشلة وأصابع زينب تتطلب من الغزي، المحتاج إليها في هذا الصقيع، البحث عنها كإبرة في كوم قش، وإذا نجح في العثور عليها فسيدفع على الأرجح مهر عروس لقاء اقتناءها، مع منع المحتل دخول معظم المساعدات والبضائع إلى قطاع غزة.
وليس بريئا البراد أيضا الذي تعلق أصوات بائعيه في آذان الأطفال حتى مع تلاشيه من المخيمات لارتفاع ثمن السكر الذي "ساق دلاله" عليهم وباتوا يسمعون عنه أكثر مما يرونه.
أو يبيعون وهميا الخبز البلدي الذي اختفى أيضا من مخيمات النزوح والأسواق مع شح الدقيق وتحوله إلى أمنية للنازحين المنهكين بصنوف العذاب من حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ سنة ويزيد.
وإذا زاد "طموحهم" قليلا يتقمصون شخصية سيدة كانوا يرونها تخبز في فرن الطينة وباتت الآن خالية الوفاض، يسمع الجميع صدى أوانيها الفارغة، ويفتقدون في الشتاء حرارة فرنها الذي اكتووا بناره في الصيف.
وعندما يفيق الأهل والجيران على أصواتهم البريئة قد ينهرهم البعض، ويستوعبهم الآخر، وفي كلتا الحالتين يجدون أنفسهم مدعوين للصمت المؤقت، ليعيدوا الكرة بعد قليل.
ويفزعون عندما يسمعون من بعيد صوت عربة مياه إذا كانت مجانية لجمع ما استطاعوا من جالونات لتعبئتها، ويتهافتون عليها، ولا ضامن ليفوز أي منهم بشربة ماء.
ومع حضور التكية يكون الأطفال الجوعى في سباق لجمع الأواني ويتنافسون أيهم سيصل أولا ليحظى بشيء من المعكرونة المطبوخة أو غيرها من الأطعمة التي تفتقر لمعظم مكوناتها المفترضة في ظل حرب الإبادة، وعيونهم تهفو للأصناف التي حرموا منها طويلا وقد يكون في مقدمتها قطعة دجاج أو لحم.
وإذا فرغوا من كل ذلك، يسترجعون أو يخترعون ألعابا يمارسونها على الرمال وربما بين مخلفات معلبات الأطعمة الفارغة التي جرحت مرارا عددا منهم.
ومن هذه الألعاب الكرات الزجاجية التي يسمونها "القلول"، وكرة القدم التي حتما تصيب خيام النازحين وتسقط فوق رؤوس بعضهم، أو لعبة البنات الشهيرة المعروفة بـ"الحجلة".
ويستمتع الأطفال بهذه الألعاب أو يتظاهرون بالاستمتاع بها، مع ضيق خياراتهم.
وعندما يحظى الطفل بالتسجيل في خيمة تعليمية، وكثيرون لا يجدون مقعدا، فلا يمكث فيها سوى ساعتين وسط ازدحام شديد يصعب على القائمين عليها مواكبة العدد الهائل من الأطفال النازحين.
وإذا نجح في التسجيل للتعليم الإلكتروني يتيه في ثنايا توفير الوسائل اللازمة كأجهزة اللابتوب أو التاب أو حتى الهواتف النقالة والإنترنت ضعيف السرعة.
وإذا ما اقتطعت الأم بعضا من وقتها المزدحم بتدبير شؤون الحياة الثقيلة لتعليم أطفالها غالبا ما تجدهم أجسادا بلا أرواح، وتحاول أن تغرس في أذهانهم الشريدة شيئا مما يجب أن يتعلموه وقد تبوء بالفشل.
وفي قلب كل طفل صورة لشهيد أو أسير قد يكون أباه أو أخاه أو قريبا من الدرجة الأولى أو أبعد قليلا، إن لم يكن هذا الطفل بذاته مصابا أو مبتورا، مع تسجيل وزارة الصحة 44,330 شهيدا و104,933 مصابا معظمهم من الأطفال والنساء منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويتهيأ كل منهم لأن يكون شهيدا أو مصابا مع انهمار الصواريخ على رؤوس الجميع في كل مكان.
يفقدون حقوقهم وفي مقدمتها الحق في الحياة الكريمة والتعليم في مدارسهم المكتظة بالنازحين، يتيهون في المخيمات وبين أزقتها، تسرق حرب الإبادة أعمارهم دون أفق لكبح جماح المحتل المتعطش لدمائهم.