فلسطين أون لاين

بالفيديو الصّحفي غَيْث ونجله.. الخبر والصّورة معًا!

...
محمد نجل الصحفي جمال غيث استشهد في قصف إسرائيلي استهدف مجموعة أطفال في مخيم الشاطئ
غزة/ أدهم الشريف

"حملتُ هاتفي وبدأتُ تصوير آثار الجريمة البشعة، كانوا مجموعة من الأطفال مضرّجين بدمائهم.." بهذه الكلمات بدأ الزميل الصحفي جمال غيْث سرد تفاصيل مهمة صحفية انطلق لتنفيذها وانتهت بتوثيق استشهاد طفله البكر محمد (9 أعوام).

عصر الأحد، 13 من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، كانت الأوضاع تبدو كأنها على ما يرام في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، حيث استقر الصحفي غيث مع عائلته بعد رحلة نزوح قصيرة من حي الشيخ رضوان في شمالي المدينة.

وأُجبرت العائلة على مغادرة منزلها بسبب التهديدات "الإسرائيلية" التي رافقت التوغل البري في محافظة شمال قطاع غزة، وما تلاها من أوامر إخلاء وصلت إلى مفترق الصاروخ نهاية شارع الجلاء، حيث تسكن العائلة بالقرب منه.

ولم يكن أمامه سوى التوجه إلى منزل أحد الأقارب في مخيم الشاطئ، حيث استقر غيث مع عائلته ودأب على مراقبة أطفاله الثلاثة "محمد، ولمى، وكريم" خشية أن يصيبهم أي مكروه.

وكان محمد محبٌ للعب مع أبناء عمه وأصدقائه بين شوارع المخيم الضيقة، إذ كان يتحرك بينها بخفة شديدة بواسطة دراجة هوائية أتقن قيادتها منذ صغره.

وما إن مرت 24 ساعة فقط على وصول العائلة النازحة إلى مخيم الشاطئ، وفجأة ودون سابق إنذار دوَّى صوت انفجار ارتجت له أرجاء المخيم، وتصاعدت معه كتلة رهيبة من النيران وأعمدة الدخان، بسبب غارة شنتها طائرة حربية "إسرائيلية" بدون طيار على منطقة مكتظة بالأطفال.

وَثَّقَ اغتِيال بِكره

على الفور، استل غيث هاتفه وركض عشرات الأمتار قبل أن يصل مكان الاستهداف، وكانت الفاجعة عندما انقشع غبار القصف ليكشف جريمة "إسرائيلية" جديدة، ضحيتها هذه المرة أيضًا مجموعة من الأطفال وعدد آخر من المصابين.

وعندما انغمس غيث في توثيق آثار جريمة الاحتلال بمجوعة من الصور والفيديوهات للضحايا اتصلت به زوجته لتسأله عن ابنهما محمد، وطلبت منه البحث عنه، لأن "غيبته طالت عن البيت" وفق قولها له.

في هذه الأثناء، كانت مركبة الإسعاف قد وصلت مكان القصف واستطاعت انتشال الشهداء دفعة واحدة.

في الجهة المقابلة، كان زميلنا الصحفي الذي يعمل مراسلاً لصحيفة "فلسطين" وموقعها الإلكتروني "فلسطين أون لاين"، يواصل عمله في التقاط الصور والفيديوهات دون علمه أن نجله وابن شقيقه أيضًا من بين الأطفال الذين تحركت بهم مركبة الإسعاف ودوى صوتها في أرجاء المدينة.

يضيف غيث: لم تمضِ سوى دقائق قليلة ومن وسط زحام الجريمة "الإسرائيلية"، ظهر أحدهم وأعطاني الدراجة الهوائية الخاصة بابني محمد.. عندها أصابتني صاعقة كبيرة، وأدركت أنه من بين ضحايا الغارة "الإسرائيلية".

"بحثت جيدًا في مكان الاستهداف عن محمد فلم أجده، وتحركت مسرعًا بعدها إلى مقر عيادة الخدمات الطبية في مخيم الشاطئ ولم أجده أيضًا، فتوجهت إلى مجمع الشفاء ركضًا على الأقدام فوجدت الأطباء يتعاملون مع مصابين بجروح مختلفة".

"عندها لم يكن أمامي سوى التوجه إلى المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)" والقول لغيث.

ووثّق صحفيون في مقطع فيديو قصير لحظة وصول الإسعاف محملاً بالشهداء إلى المستشفى الأهلي، وهي محملة بشهداء الغارة على مخيم الشاطئ، ويظهر في إحداها شاب يحمل الطفل محمد وهو ينزف الدماء من رأسه، وقد سالت من ساقيه وأجزاء أخرى من جسده.

ويُظهر الفيديو أيضًا أن محمد كان قد فارق الحياة قبل أن يصل المستشفى بسبب الشظايا التي اخترقت جسده الغضّ.

ماذا بعد؟

أما عن غيْث، ولدى وصوله مستشفى المعمداني، لم يترك قسمًا إلا وفتّش فيه عن نجله، وكان يسأل عن طفل يرتدي تيشيرت بيج اللون وشورت أسود، قبل أن يقع نظره على طفل مسجّى على الأرض في المشرحة وملفوف بكفن أبيض، فبدأ يركض نحوه مسرعًا.

"ما إن رأيته من بعيد شيء ما أخبرني أنه محمد (..) وكان هو بالفعل".

 عندها انهار غيث جاثيًا على الأرض، وقد احتضن ولده وبكى بشدة وبصوت مسموع، وأحسَّ بثقل الجبال فوق ظهره.

"أُصبت بانهيار شديد لم أمر به في حياتي.. لم تعد ساقاي قادرة على حملي، ولم أعد قادرًا على رفع ابني عن الأرض".

وفي وداع نجله داخل المستشفى كان غيث يحاول مواساة نفسه ووالده الذي تواجد معه أيضًا، قائلاً: "يا حبيبي قوم.. راح الولد راح"، وانتشر هذا الفيديو على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.

"لم أتوقع للحظة أن أعيش هذه التجربة، فنحن قد نزحنا حتى ننجو بأنفسنا لكن الاحتلال لم يدع مكانًا آمنًا لأحدٍ بالمطلق" بالكاد استطاع غيث نطق هذه الكلمات بصوت متقطع.

يتساءل هو أيضًا: أي ذنب ارتكبه محمد وأصدقاؤه ليُقتلوا هكذا في غارة جوية؟!

لاقى محمد اهتمامًا بالغًا من والديه وأفراد عائلته جميعها، وكل من عرفه أحبه، فهو كما يصفه والده بأنه "طفله البكر الذي جاء على شوق وعطش"، أي رزق به بعد انتظار امتد أربع سنوات متتالية، تخللها أربع عمليات إجهاض أجنة خاضتها زوجته بسبب ظروف خاصة.

ومثلما كان يوم ميلاد محمد في الثامن عشر من أغسطس/ آب 2018، مميز في حياة الصحفي غيث وزوجته إنصاف، سيبقى الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2024 محفور في ذاكرة والدي الشهيد الذي غيبته الغارة "الإسرائيلية" عنوةً، في جريمة إبادة جديدة، راح ضحيتها 6 أطفال أبرياء.

وبكلمات ملؤها الحزن يقول غيث: "لا يمكن أن أنسى الجريمة "الإسرائيلية" مهما طالت السنوات.. فقد اغتالت "إسرائيل" براءة ستة أطفال، وصادرت أحلامهم من بينهم ابني البكر".

لقد اعتاد الصحفي غيث منذ بداية الحرب على توثيق جرائم الإبادة "الإسرائيلية" بسلسلة من الأخبار والتقارير المكتوبة والمصورة أيضًا، لكنه ونجله محمد كانا هذه المرة الخبر والصورة معًا، مثل كثير من الصحفيين ممن مارس بحقهم الاحتلال الاستهداف والاغتيال المتعمد، فأصبح عدد الضحايا منهم يفوق الـ175 شهيدًا، فضلاً عن الجرحى والمصابين.

أما ما لا يعرفه الكثيرون، أن والدة الشهيد تحمل في أحشائها جنينًا في شهره الرابع، فهل يولد محمد غيث من جديد؟!