لعدة ساعات منذ ساعات الفجر يصطف الصياد الشاب حسني الزهار بين مجموعة من الصيادين تفصل بينهم عشرات الأمتار، يحملون على أذرعهم شباك صيد دائرية بها أثقال يتم توزيعها حول طرفها، ورميها يدويا بطريقة تجعلها تنتشر على المياه وتغوص تسمى "شبكة طرح"، بانتظار قدوم أسماك "البوري" مع حلول موسم الصيد.
بين فترات زمنية متباعدة كان كل صياد يحاول رمي الشبكة داخل الماء ومعظمها كان تخرج بصيد شحيح رغم أن موسم الصيد قد بدأ ينتظرون "الرزق والعوض الجميل" نتاج صبرهم كما في كل موسم خاصة أسماك البوري المهاجرة التي كان الصيادون بانتظار وصولها للشاطئ ولم تأتِ بعد، بعضهم أرجع أسباب ذلك للحرب الإسرائيلية على غزة وإغلاق الاحتلال البحر في وجه الصيادين ومنعم من الصيد، فضلا عن تكدس النازحين على الشاطئ وتدمير قوارب الصيد.
يرافق الزهار أطفاله الثلاثة يجلسون على رمال شاطئ البحر، ويحملون ظرفًا صغيرًا لوضع الأسماك به، كانت ملامحهم ترتدي ثوب الحزن كلما كانت الشباك خالية من الأسماك، لكن لم يفقد والدهم الأمل بأن يعود لهم بما يرسم البسمة على ملامح أطفاله.
موسم ضعيف
تحت قبعة وقناع وجهي يتخفى الزهار عيون الشمس الحارقة ولهيب شعاعها، ويأتي لشاطئ محافظة خان يونس يوميًا ويستمر ساعات طويلة في الصيد بواسطة "شبكة الطرح" يمارس الصيد كـ "مهنة وهواية" وهي مصدر الدخل الوحيد لأطفاله.
يقول الزهار لموقع "فلسطين أون لاين": "وضع الموسم صعب هذا العام، قد تصيد في يوم وفي أربعة أيام يكون الصيد ضعيفا، ربما هذا له علاقة أن موسم الصيد لم يشتد بعد بشكل فعلي، أو ربما يؤثر القصف على السمك".
استشهد أحد أطفاله في مجزرة إسرائيلية وقعت في أكتوبر/ تشرين أول 2023 بقصف حارته بحي تل السلطان غرب محافظة رفح، ويواصل مع بقية أطفاله البحث عن الحياة والعمل، يردف بنبرة إصرار "بدنا نمشي حياتنا ونعيش".
غير بعيد عن المشهد، كان أحمد النجار يبحر على مسافة لا تزيد عن مئة متر داخل البحر بواسطة حسكة مجداف ينشر الغزل داخل البحر، ليسحبه بعد نصف ساعة على شاطئ البحر وكانت الشباك شبه خالية من الأسماك باستثناء ما حملته من أعشاب.
وأحاط أطفال وشباب من النازحين الذي يسكنون شاطئ البحر، حول النجار وأخوته، وساعدوهم في سحب الشباك وإخراج الحسكة من المياه، وكذلك في إزالة الأعشاب وما علق بالشباك من مخلفات القمامة التي بدأ الصيادون يعانون منها وتعلق بشباكهم.
يقول النجار لموقع "فلسطين أون لاين" وهو يستعد لمحاولة صيد ثانية إن "بحرية الاحتلال تلاحقنا، وتطلق النار علينا، حتى أننا رأينا الموت بأعيننا، لكن لأننا نعيل عشرة عائلات فإننا ننزل في رحلة صيد محفوفة بالمخاطر نحمل أرواحنا على أكفنا".
قبل أسبوعين أطلقت زوارق الاحتلال النار على مركب النجار الصغير رغم أنه لم يبعد سوى 300 متر في عمق البحر، ونجى بأعجوبة من موت محقق، لكن تلك الحادثة لم تفقده الأمل بمواصلة الصيد.
إغلاق البحر
وإضافة لتلك المخاطر، يعاني النجار والصيادون من عدم توفر شباك صيد، فيضطرون لإصلاح الثقوب التي تحدث بسبب علقها بين الصخور، أو السلطاعين.
على مقربة من المكان، كان الصياد الستيني فؤاد العامودي يتربع على رمال الشاطئ وبجواره عدة شباك صيد يحاول إصلاحها يدويًا، وكذلك إزالة الأعشاب العالقة بين الشباك في عملية صعبة أخذت وقتًا وجهدًا منه، كان أبناؤه الأربعة يساعدوه قبل نزولهم مرة أخرى بواسطة حسكة مجداف يملكها داخل البحر.
يعزو العامودي وهو رئيس نقابة الصيادين بمحافظة خان يونس ضعف الصيد، لإغلاق الاحتلال البحر أمام الصيادين، فضلا عن قصف مراكب الصيد (لنشات) وتدمير محركاتها بالتالي أباد بذلك قطاع الصيد، فيما يخاطر الصيادون بواسطة حسكة المجداف للعمل على مسافات قريبة لا تستطيع جلب الأسماك كالسردين والسكمبلة والطرخونا رغم حلول موسم الصيد في أشهر سبتمبر/ أيلول حتى نوفمبر/ تشرين ثاني، إذ تحتاج لمراكب جر تدخل على أعماق ومسافات تصل لستة أميال في عمق البحر.
يقول العامودي لموقع "فلسطين أون لاين": "قبل الحرب كان الصياد لا يأكل إذا لم يصطاد، واليوم نعيش في حرب وموت وخطر والمراكب محترقة ومدمرة، بالتالي الصياد الذي لا يعمل بمهنة أخرى يضطر لجلب حسكة مجداف لتوفير قوت يومه".
وحتى إن كانت مواسم الصيد وفيرة وحضرت الأسماك للشاطئ، يلفت العامودي إلى أن حسكات المجداف والشباك الصغيرة، هي بالكاد تستطيع إطعام الصياد وتوفير دخل بسيط له، لكنها لا تستطيع عمل اكتفاء ذاتي للمواطنين في غزة أو تؤدي للتصدير كما جرت العادة قبل الحرب.
تتصبب وجنتنا العامودي بالعرق، الذي عمل لعدة عقود داخل البحر، يدفعه حب المهنة وتعلقه بها للقدوم مع أبنائه ومساعدتهم بما يحمله من خبرة كبيرة في إرشادهم والتعامل اليدوي مع إصلاح الغزل.
قبل نزول أبنائه للبحر، استغرق العامودي وقتًا في محاولة إصلاح الفتحات الممزقة بربطها بعقد يدوية وكان ظاهرًا كثرة العقد اليدوية التي تملأ الشباك، يعلق بلهجة عامية "فش غزل عشان نشتريته فبنطر نربطه ونرقعه عشان يشتغلوا فيه".
وتدفع الظروف الصعبة وقلة فرص العمل في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة الصيادين للمخاطرة بأنفسهم للحصول على لقمة عيش مغمسة بالشقاء والمعاناة والمخاطرة التي دفع خلالها نحو 18صيادًا حياتهم جراء اعتداءات الاحتلال المتواصلة على الصيادين، وتحدي قرار الاحتلال بمنع الصيد.
أما أبو أحمد وهو صياد يستخدم "شبكة الطرح" في صيد الأسماك فضل أخذ استراحة على رمال الشاطئ بعدما استغرق وقتا طويلا في الوقوف بانتظار ظهور الأسماك التي تأتي للشاطئ كالبوري أو سمك "الغزال" في موسمها الحالية.
بملامح ممزوجة بالاستغراب يتحدث لموقع "فلسطين أون لاين" عن سبب ضعف الصيد، قائلا بلهجة عامية: "هينا بنيجي كل يوم من الفجر زمي ما اجينا بنروح فاضيين".
وأضاف "بمثل هذه الأيام بمواسم سابقة كنا نصطاد ونرزق ونصرف على بيوتنا، لكن هذه السنة غريبة، كأنه جفاف، ولا نستطيع تحديد الأسباب إن كانت مرتبطة بالمناخ أم بالحرب، وأملنا بالأيام القادمة أن تحمل لنا الخير".
وبحسب معطيات صادرة عن نقابة الصيادين، دمر الاحتلال في حربه نحو 1050 قارباً بمحرك بما يشمل 96 من اللانشات و900 قارب بدون محرك، ومعظم غرف الصيادين.
ويبلغ معدل انتاج قطاع غزة من الأسماك 5100 طن سنوياً، وكان يسوق قبل الحرب إلى الضفة الغربية (100) طن سنويا من الأسماك الاقتصادية، سواء المصطادة من البحر أو المنتجة داخل المزارع، مثل الدنيس الذي يحتل ( 60%) من التسويق، واللوكس والجمبري.