يسطر مقاومو كتائب القسام ملاحم أسطورية ينغمسون خلالها مع جنود وآليات جيش الاحتلال من المسافة صفر، يرفعون شعارًا "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت" متحدين بعتادهم البسيط وشجاعتهم الفولاذية جيش الاحتلال ودباباته وطائراته، يدافعون عن شعبهم ويكبدونه خسائر كبيرة.
ونفذ مجاهد من القسام فجر أمس عملية نوعية "معقدة" ومركبة كما جاء في بيان القسام، بعد قيامه بالتسلل لحجرة قناص "إسرائيلي" ومساعده بمخيم جباليا شمال القطاع، وأجهز على الاثنين، ثم تنكر بزيهم العسكري وبعد ساعة اقترب من قوة "إسرائيلية" راجلة مكونة من ستة جنود وفجَّر نفسه بهم.
بتلك العملية تدخل القسام تكتيك العمليات الاستشهادية كأسلوب في المعركة الحالية، والذي دأبت على استخدامه خلال تسعينات القرن الماضي وانتفاضة الأقصى عام 2000 ، والتي لطالما كانت تشكل هاجسا لجيش الاحتلال.
وسبق تلك العملية، هجوم غير مبسوق نفذه مقاوم من القسام بطعن ضابط "إسرائيلي" وثلاثة جنود والإجهاز عليهم بسكينه ثم اغتنام أسلحتهم، تحلى المقاتل خلالها بشجاعة كبيرة وتجاوز خلالها تعقيدات المراقبة من قبل طائرات الاحتلال ومسيرّاته، وانتهى النزال لصالحه خلال ثوان معدودة أجهز فيها على الجنود من المسافة صفر.
كما أعلنت كتائب القسام بعد ذلك عن إجهاز مقاتل على جندي "إسرائيلي" بجوار دبابة "ميركافا" والاستيلاء على سلاحه وإلقاء قنبلتين يدويتين داخل الدبابة غرب مدينة بيت لاهيا.
وتشير العمليات الانغماسية، إلى تحول في نهج المقاومة خاصة في المعارك الدائرة شمال القطاع، وهذا ما ظهر في فيديو للقسام يوم 14 ديسمبر/ كانون أول الجاري في ذكرى انطلاقة حركة حماس والذي حمل شعار "نحن لا نستسلم .. ننتصر أو نموت".
تكتيك جديد
هذا التحول في المعركة، يعتبره الخبير العسكري السوري العقيد أحمد حمادة بأنه تكتيك جديد تعود من خلاله كتائب القسام لعملياتها الاستشهادية عام 2004، معتقدا أنها ستؤثر بشكل كبير على الروح المعنوية لجنود جيش الاحتلال.
وقال حمادة لـ "فلسطين أون لاين": إن "النقطة صفر هي المدى المجدي للأسلحة المتوفرة لدى المقاومة إن كانت قذائف RPG، أو البندقيات، والتي يقوم المقاوم المدرب بشكل جيد والمؤمن بقضيته بالالتصاق مع الهدف كذئب منفرد"، معتقدا، أنه سيحدث فارقا كبيرا في ظل الصلف الإسرائيلي وعدم انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة".
ورأى أن العمليات النوعية التي ينفذها المقاومون في غزة، خاصة الاستشهادية في جباليا تعيد الأمور لما قبل 2004، معتقدة، أن هذه العمليات الانغماسية تلحق ضررا بجيش الاحتلال، وتزعزع صورته الذي كان يريد التعبير عن نفسه أنه انتصر ويقاتل ويهدم ويحاصر المقاتلين ولم يترك لهم جسرا ذهبيا يخرجون مه من المخيم.
بالتالي لم يبق أمام المقاومين، وفق حمادة، إلا الانغماس والالتحام مع الجنود بالحزام الناسف والتفجير الشخصي وهذه تضحية كبيرة تحسب للمقاومة ومقاتليها الذين يجودون بأنفسهم ودمائهم الذكية دفاعا عن قضيتهم العادلة، يكسرون خلالها صورة جيش الاحتلال.
عمليات متصاعدة
وتتصاعد العمليات الفردية المركبة أو كما توصف بـ "كمائن الموت" أو ما تعرف عسكريا بـ "الذئاب المنفردة"، ما يعكس تحولا في تكتيكات المقاومة ونهجها، ويعكس تضحية كبيرة يقدمها المقاومون لتكبيد جيش الاحتلال خسائر كبيرة، باستدراجهم لمناطق الكمائن التي توصف بـ "المقتلة" والإجهاز عليهم أو تفجير الآليات.
وخلال المعركة نفذ مقاومو القسام عشرات العمليات من المسافة صفر، التحموا خلالها مع آليات جيش الاحتلال، وفي 24 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، أعلنت القسام أن مقاتليها تمكنوا من الاشتباك مع قوة إسرائيلية راجلة قوامها 10 جنود من المسافة صفر، وإيقاعهم بين قتيل وجريح في شارع الجامعة بحي الجنينة شرق مدينة رفح.
وأعلنت القسام في 10 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي بأن مقاتليها أجهزوا من المسافة صفر على قوة إسرائيلية راجلة قوامها 15 جنديا شمال بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وهذه العمليات ضمن عشرات العمليات المماثلة خلال الحرب.
ولا تقتصر المسافة صفر على الالتحام المباشر بين الجندي والمقاوم، بل ينسحب ذلك على عمليات إطلاق قذائف الياسين (105) على الدبابات والآليات الإسرائيلية، وتفجير العبوات الناسفة، التي يحتاج فيها المقاوم للاقتراب من مسافة قريبة من الآليات ليتمكن من تدميرها، وهذه المسافة أقل من 50 مترًا ما يجعل جيش الاحتلال لا يستطيع استخدام الأسلحة الثقيلة ضد المقاومين.
وفي مقال له، يصف الباحث في الإعلام السياسي د. محمود بركة في المسافة صفر، فيقول: إنه "ثمة عمق في المسافة صفر التي تختصر المسافة التدريبية التي خاضها الفدائي المقاوم بينه وبين فهمه لفيزياء العدو. ومن تلك المساحة، وضعت المقاومة الفلسطينية في غزة الجسد في مركز الصفر وعلى رأسه، وتكوّن الخطاب وصار أحد درجات قوة الصفر".
بدوره، قال الكاتب في الشأن السياسي والعسكري أحمد عبد الرحمن، إن المقاومة لا زالت تقوم بنفس الدور وهو حماية شعبها ووطنها، وعدها مرحلة صعبة بعد عام وشهرين من اندلاع الحرب، في ظل عدوان ضار استخدم فيه الاحتلال كل وسائل البطش عدا السلاح النووي مع التنويه أنه استخدم أسلحة محرمة دوليا كالأسلحة التي تحتوي على "البلوتونيوم" والأسلحة الحارقة التي تحتوي أجزاء منها على مواد كيماوي أدت لتبخر أجساد الشهداء في كثير من المجازر بفضل الدعم الأمريكي والغربي.
وأضاف عبد الرحمن لـ "فلسطين أون لاين" بأن هذه المقاومة والبأس والإصرار يدلل على أنها تعمل وبقوة وتفاجئ الاحتلال خاصة شمال القطاع التي تشهد اقتحاما لجيش الاحتلال منذ ثلاثة أشهر.
وتقول كتائب القسام إنها قتلت 60 ضابطا وجنديا إسرائيليا، وأصابت مئات آخرين خلال الـ77 يوما الأخيرة، 17 من الجنود القتلى لقوا مصرعهم قنصا.
فيما اعترف جيش الاحتلال بمقتل 818 جنديًا منذ بداية الحرب، وهو رقم لا زال محل تشكيك من خبراء عسكريين معتقدين أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، وأكد الجيش إصابة 13 ألفا و500 مصاب من جنوده بنيران المقاومة بغزة.
ورأى أن المقاومة وطنت نفسها على مرحلة طويلة الأمد وتشبه حرب استنزاف، والحرب اللامتماثلة وتجيّر إمكانياتها الضعيفة لتحقيق أهداف استراتيجية، بالصمود وعدم الاستسلام.
وأضاف بأن "المقاومة تشاغل الاحتلال بمناطق معينة تختار هي المكان والتوقيت المناسب، ولا يستطيع الاحتلال فرض ذلك عليها، حسب ما يناسب المعركة من إمكانيات لتدافع عن نفسها بإفشال أهدافه وكسر موجته العدوانية، ينفذ المقاومون التكتيكات بمهنية عالية".
ويعتقد أن المقاومين خاضوا تدريبات قتالية عديدة للتعامل مع "المسافة صفر" أو الالتحام مع جنود وآليات جيش الاحتلال، ومثالا عليها، كيف يجيرون قذيفة لتدمير أعتى دبابة في العالم، وهذا يتحقق بفعل تكتيك معين بإطلاق القذيفة من مسافة قريبة من الدبابة بمناطق معينة بين برج الدبابة وبدنها أو في الجانب الأخير منها لإحداث التفجير.
وتؤثر عمليات المقاومة، وفق عبد الرحمن، بمسار التفاوض، وسط الترشيحات بقرب الوصول لصفقة بين المقاومة والاحتلال، أساس ذلك يعزوه، إلى صمود المقاومين وبسالتهم، والذي أشعر الاحتلال بفشل تحقيق أهدافه.