من صوته النّدي وعمق خطبه الدينية وشموليتها ومعرفته الواسعة يعرفه الكثيرون بغزة، يصف البعض صوته بأنه قادم "من الجنة" لشدة خشوعه في الصلاة، كان إمام المصلين في مسجد مدرسة التابعين كما كان إمام المصلين في الكثير من مساجد القطاع، كان خطيبًا مفوهًا مرتبطًا بدينه وعقيدته، يحرص على غرس قيم الإيمان وحب الدين والجنان في نفوس الناس وهذه كانت السمة الغالبة في خطبه.
كان الشيخ محمد أبو سعدة المُكنى "أبو أنس" يستعد لاختتام مسابقة سرد القرآن الكريم فجر 10 آب/ أغسطس 2024، فأرسل دعوات ورسائل نصية تؤكد للمدعوين أهمية تواجدهم فختم رسالته "حضوركم يضيف لمسة خاصة للحدث".
وجّه أبو سعدة دعوات لحضور ختمة القرآن الكريم، لكنهم حضروا عرس الشهادة، فعندما وقف إمامًا للمصلين في مصلى مدرسة التابعين الواقعة بحي الدرج بمدينة غزة لصلاة الفجر المشهودة، هزت ثلاثة انفجارات سماء مدينة غزة لتستيقظ المدينة مجروحة بحزنٍ على مجزرة دموية ارتقى فيها أكثر من 100 شهيد.
ملامح المجزرة
لم يكن خبر الاستهداف قد وصل لشقيقه "أحمد" إلا عندما أيقظه صوت اتصال قادم من شقيقته بعد دقائق من الحدث، أخبرته بقصف المدرسة ولم يكن يتضح لها عدد الشهداء ولم ينشر أي اسم كذلك، لكن قبل أن تكمل كلامها وقع في نفس شقيقها استهداف المصلى واستشهاد شقيقه الداعية.
بعد ساعات تبيّنت ملامح المجزرة ونزلت الصدمة على قلوب العائلة، أجرى بعض الاتصالات للتأكد من أنه مصاب أم شهيد، فحملته قدماه نحو المشفى ليجد شقيقه مسجى بدمائه، ويقف بعض الأصدقاء حوله، حمد الله أن وجد جثة كاملة باستثناء ضربة في رأسه فيما حولت الصواريخ الفتاكة معظم أجزاء المصلين لأشلاء.
في لحظة انشغال رحلت ذاكرة أحمد لقبل عشرة أيام عندما زار شقيقه بمصلى المدرسة ورافقه ابنه الصغير "حسن"، يستذكر التفاصيل بصوت تغلي فيه جمرات الحزن لـ "فلسطين أون لاين": "كان سعيدًا جدًا بلقائنا، ويوم الخميس قبل المجزرة بيوم أرسل رسالة لي كتب فيها: "تعال بدي أشوفك"، يريد أن يسلمني أمانة لأناس، فاعتذرت بسبب انشغالي الكبير وطلبت تأجيل الزيارة ليومين، فأرسل الأمانة مع ابنه أنس".
يردف بحسرة: "لو كنت أعلم أنه لن يكون بعد ذلك لقاء، لأتيته حبوًا".
حمل أبو سعدة قضية شقيقه الأسير علي أبو سعدة الذي اعتقلته قوات الاحتلال على حاجز دوار "الكويت" أثناء محاولته النزوح لجنوب القطاع، فكان يسأل محامين ويتابع أخباره في سجن عوفر، وكان متشوقًا أن يراه وتجتمع العائلة على خير.
في إحدى خطبه المنتشرة عد استشهاده، وقف على المنبر وقرأ بصوته الندي "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا" وقرأ "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا" وختم خطبته التي وصفها البعض بأنه كان ينعى نفسه فيها: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".
لم تكن الشهادة إلا خاتمة رحلة علمية طويلة سلكها أبو سعدة، وخاتمة رحلة معاناة ونزوح وتشرد بعد قصف منزلهم، لجأ إلى مصلى المدرسة في رمضان فكانت مأوى وجعل مسجدها مكانا أكمل فيه مسيرته الدعوية للنازحين بالمدرسة.
الخطيب المفوه
بدأ أبو سعدة الذي أصبح مديرًا للأوقاف بمدينة غزة الخطابة بالاستماع عبر أشرطة الراديو القديمة فكان يستمع إلى الشيخ المصري عبد الحميد كشك، وأبو إسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب، فتتلمذ على أيديهم من تلك الخطب.
أما عن صعوده المنبر فكان أول صعود له عام 2010 عندما التحق بدبلوم القيادة والريادة بمؤسسة إبداع ومن ضمن شروط اجتياز الدبلوم إلقاء خطبة في مسجد من المساجد، فكان الخروج الأول، وبعدها تدرجت خطبه ولمع اسمه عبر أربعة عشر عامًا كرّسها في نشر الدعوة، وعرفه شقيقه أنه باحث عن أصل كل كلمة يتحدث بها للناس.
في بداية الحرب كانت العائلة قاب قوسين أو أدنى أن ترحل كاملة لولا "عناية الرحمن"، تتزاحم مشاهد الحدث الصعب في ذاكرة شقيقه المثقلة بوجع الفقد: "استشهدت عائلة بجوارنا بعد قصف منزلهم، وفي فجر الليلة ذاتها، وأثناء نومنا فإذا بالقصف الغادر يضرب بيتنا بصاروخين".
تقفز بقية المشاهد أمامه: "استيقظنا مذعورين. الجميع خرج سالمًا إلا من بعض الرضوض، وبعدها نزح بعضنا إلى الجنوب وبقيت أنا وهو وأخت لنا متزوجة بغزة".
وأبو سعدة من مواليد 1982 من سكان حي الصبرة، واحد من عشرة أشقاء نصفهم إناث، متزوج ولديه خمسة أبناء عرف عنه التفوق بمراحله الدراسية، فدرس الابتدائية بمدرسة الفلاح بحي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، وأكمل الثانوية بمدرسة فلسطين وسط المدينة، اجتاز الثانوية العامة بمعدل 94% مكنته من دراسة الهندسة بالجامعة الإسلامية والتفوق فيها.
دفعه تعلقه بكتاب الله بإكمال تخصص جديد بإكمال بكالوريوس شريعة وأصول دين، والتحق بالماجستير وكانت أمنيته الالتحاق بالدكتواره في إحدى جامعات السودان التي كان على تواصل معهم، "لم يسعفه القدر في ذلك ونال شهادة أكبر" والكلام لشقيقه.
تحضر حديث شقيقه مواقفهم منذ الطفولة، في ترديد أناشيد المنشد السوري أبو راتب، أو الاستماع لقراء معروفين أمثال عبد الباسط ومحمد المحيسني وعلي الحذيفي وأحمد العجمي، من صفاته، أنه وقور ودود قلبه رقيق ودمعته قريبة، وقافا عند حق الله، ولا يهادن في ذلك.
"كنا بغرفة واحدة أثناء طفولتنا، كان يحثني كثيرًا على الصلاة، يذكرني دائما بالله، كان نبراسًا في الخير قائمًا على حاجة الناس، كان عنوان الإصلاح لحل المشاكل العائلة والاجتماعية بحي الصبرة الذي يسكن فيه يحب أن نجتمع كعائلة ونخرج للبحر دائما يتحفنا بصوته وأفكاره الطيبة" قالها بصوت خنقته الدموع.
قبل رمضان الماضي نزح لمدرسة التابعين، بعد مرارة النزوح بمدارس الصبرة والدرج، "فكانت شهادة مشرفة".