فلسطين أون لاين

يجمع شتات عائلة أرهقها النزوح المتكرر

تقرير من الحطام عاد للحياة.. حكاية أول بيت يُعمر بغزة

...
خان يونس/ يحيى اليعقوبي

كالعنقاء عاد المنزل المدمر للحياة وولد من الحطام، يلملم صاحبه الشاب محمد أكرم ماضي (33 عامًا) من سكان "البطن السمين" بمحافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، أشلاء أحلامه المتناثرة مع بقايا منزله المدمر وفي أدراج الذاكرة، ليجمع شتات عائلة أرهقها النزوح المتكرر، ويعلن رفضه للانكسار، ليجعل من ركام البيت حلمًا جديدًا يبني به منزله الجديد، ليولد الأمل من رحم الألم ويضخ في أبناء شعبه روح التفاؤل والتحدي لحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.

مع انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من محافظة خان يونس، عاد ماضي كغيره من سكان المحافظة لتفقد منزله وأرضه الزراعية المليئة بأشجار الزيتون والبرتقال والنخيل، ليتفاجأ بتدمير الاحتلال منزل عائلته المكون من أربعة طوابق تراصت فوق بعضها البعض أمام ناظريه وسوي المنزل بالأرض.

جمع الشاب محمد ماضي ما يمكن استصلاحه من حجارة منزله المدمر، ووضع حجر الأساس لحكاية تحدٍ للاحتلال ولحياة الخيام ليخط بعرق جبينه وبمساعدة أفراد عائلته وبعض العمال قصة أول بيت يعمر في القطاع، ويزرع بذرة التحدي في قلوب أبناء شعبه.

 من ركام منزله القديم إضافة لحجارة جديدة أكمل فيها البناء بنى منزلا صغيرا لا تتجاوز مساحته 45 مترًا مكونا من غرفة واسعة ومطبخ ودورة مياه سيتسع لكل أفراد أسرته البالغ عددهم 15 فردًا، وباتت العائلة التي عاشت في منزل لا تقل مساحته عن 250 مترا مستعدة للعيش بهذه المساحة نظرا لتجربة النزوح المريرة التي عاشتها وكان آخرها العيش بين جدار منزل مدمر وقبلها في خيام النزوح.

رسالة للعالم

"عندما جاءت أوامر إخلاء للمنطقة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي نزحنا إلى رفح، وبعد نحو شهرين رجعنا ووجدنا البيت مدمرا بالكامل، فقررت بناء بيتا من ركام المنزل المدمر كي نثبت للعالم بأننا لن نتخلى عن أرضنا وسنبقى صامدين وثابتين" بنبرة ثابتة ونظرات تحد وملامح أرهقها النزوح يقول ماضي لموقع "فلسطين أون لاين".

على غير بعيد من نظره، كانت أرضه أو كما كانت له "بستانا جميلا"، أشبه بصحراء قاحلة جرفت آليات الاحتلال كل أشجارها وأصبحت ساحة رملية، من حوله في منطقة البطن السمين بمحافظة خان يونس لا ترى منزلاً سليمًا، فقد طال الدمار كل المنازل المحيطة به وعم الخراب كل شيء حتى أن الكثير من الجيران لم يجدوا مكانا يمكن استصلاحه للسكن فيه.

مثل إعمار البيت وإعادة بنائه خلال الحرب تحديًا، يشرح ذلك وهو يستند لجدار حائط المنزل الجديد "الأسعار تفوق الخيال لكننا نحاول قدر المستطاع تأمين منام لأطفالي وأسرتي. اليوم تكلفة إعمار بيت صغير مثل هذا مسقوف بالزينكو توازي تكلفة بناء منزل كبير قبل الحرب".

ومع ارتفاع أسعار مواد البناء التي تعاني شحًا كبيرا بسبب تدمير الاحتلال لقطاع الإنشاءات ومصانع ووش البناء، بلغ سعر الحجر الواحد عشرة شواقل، بعدما كان لا يتجاوز شيقلين قبل الحرب، فيما ارتفع سعر كيس الأسمنت من 20 شيقلا إلى 170 شيقلا، وارتفع سعر متر ألواح الزينكو من 17 شيقلا إلى 50 شيقلا، ما "يجعل البناء مكلفًا" بحسب ماضي.

من نافذة بيته الجديدة يطل مباشرة على منزله المدمر وعلى أرضه المجرفة، يغرس الوجع أنيابه في قلبه، لكنه ورغم كل ذلك يطرد أقفال اليأس التي تلتف حول الأفق أمامه "لو ايش بده يصير مش حنسيب بلادنا. حنعمر غصب عن الكل" كلمات عفوية غادرت قلبه.

يقلب هاتفه ليتوقف عند صور بيته المدمر، وتتقلب صورٌ أخرى في ذاكرته عن هذا المكان الذي ولد وترعرع فيه، وارتبطت روحه هنا، يتمسك بحجارته المدمرة ورمال أرضه المجرفة.

 يرتدي صوته وملامح وجهه ثوب الحسرة وهو يحدق بشاشة هاتفه "هذا المنزل عشنا فيه عمرًا طويلاً، عشنا فيه ذكريات جميلة، في كل ركن فيه لنا قصة وذكرى ومناسبة جميلة أصبحت تحت الركام، كان أمننا ومصدر الطمأنينة، كان صدمة كبيرة عندما رأيتهُ مدمرًا".

على مدار عشرة أيام من العمل المتواصل، رافقنا مراحل بناء المنزل من لحظة جمع حجارة البيت المهدم ووضع أساس البيت به إلى مرحلة استكمال العمل بحجارة جديدة، حتى انتهى البناء بأعمال القسارة وسقف المنزل بألواح الزينكو وتركيب الباب والنوافذ وفرش أرضيته بالباطون.

انتهاء العمل

كان الفرح يعلو ملامحه وهو يشاهد أعمال البناء تكتمل، يقول بعد انتهاء تركيب الباب "البيت يمثل حياة واستقرار وطمأنينة عندما يغلق عليك الباب، تكون مؤمنًا من كل النواح فتشعر بالاطمئنان الذي لا توفره الخيمة ففيها تشعر أنك تعيش في الشارع".

ينقل عن مشاعر أطفاله الثلاثة الصغار وهو يشير إلى بيت مدمر تعيش في ركن فيه لا يختلف شكل الحياة فيه عن حياة الخيام، قائلا: "أطفالي الصغار ساندرا (خمس سنوات) وأكرم (4 سنوات) ونايا (عامان) يرون من ذلك الحطام مع والدتهم مراحل البناء ويتلهون بفارغ الصبر لانتهاء العمل والانتقال للسكن هنا والتخفيف من معاناة النزوح المتكررة".

جهز ماضي بعض الأشجار لزراعتها أمام منزله الجديد لتكون نواة لإعادة زراعة أرضه بأشجار الزيتون والبرتقال والنخيل، وإعادة الحياة لها لتكون موطنا للأمل بعدما جعلها الاحتلال بقعة للدمار والموت والخراب.

يصمت، ينظر مُطولًا إلى ركام منزله المدمر، ينظر إلى بقايا ذكريات، شقته وغرفة أطفاله، وكل تفاصيل جميلة جلب بعضها من أدراج الذاكرة والوجع يتقلب بين ناظريه "كان الأطفال يفرحون بحياتهم، بالأرجوحة التي كان يلعبون فيها بالأرض، في ركضهم بين الأشجار وبداخل سور الأرض، في حبه للعب والترفيه".

يعود من ماضيه الجميل إلى واقع مؤلم فرضه الحرب والنزوح "اليوم يعاني أطفالي من الصفار والوجع ومنذ فترة أتنقل بهم للعلاج".

لا زالت الصدمة تسيطر عليه من حجم الدمار حوله، وكأنه يعش في حلم لم يستيقظ منه بعد "كناش متخيلين يصير هدا الدمار بالمنطقة هادي" يتدفق القهر من صوته المليء بالحسرة على منطقة ترك فيها ذكريات جميلة.

 يردف "كان هنا جيران وحياة، الآن أصبحت مهجورة ومن عادوا لم يتمكنوا من السكن، كان لدي أرض مليئة بالزيتون والبرتقال والنخل لكنها أصبحت خرابا، تنظر إلى المنطقة المحيطة بك لا تجد بيتًا سليمًا".

من بيت ممتد على مساحة 250 مترا مكونا من أربعة طبقات لبيت لا تتجاوز مساحته 45 مترا اتسع لإيواء 15 فردا سيعيشون في ضيق "مقارنة بحياة العائلة قبل الحرب"، لكنها حياة يراها ماضي أفضل من تجربة النزوح القاسية في "روتينها اليومي وانعدام الطمأنينة فضلا عن حرها الشديد ".

 يدرك أن صعوبات الحياة ستستمر حتى مع منزله الجديد لكنه "يحاول السيطرة على الوضع وتخفيف المعاناة قدر الإمكان وتحدي الظروف" ختم حديثه بنظرات أمل وقلب مليء بالصبر والثبات يشحن بها عزيمته وعزائم من حوله من أفراد العائلة، يرفض الانكسار لظروف صعبة ألقته فيها الحرب.