تعيش جامعات الولايات المتحدة الأمريكية في كاليفورنيا، تكساس، لوس أنجلوس، نيويورك، وواشنطن، وليس في جامعات عواصم الدول العربية، معركة حقيقية يخوضها طلاب أمريكيون من أصول عرقية ودينية متنوعة، بما في ذلك من هم من أصل يهودي، ضد حملة الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الفلسطينيين في غزة.
هذه المعركة التي تدور رحاها في دولة قدمت إدارتها منذ بداية الحرب عشرات المليارات من الدولارات لدعم العمليات العسكرية لإبادة الأبرياء في غزة، ومؤخراً مليارات جديدة إسرائيل لاجتياح رفح تحت شعار حماية الأمن القومي الأمريكي كما يدعي ويصرح الرئيس جو بايدن، هذا الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية يشي بولادة رأي عام أمريكي جديد يرفض أن يتم تطويعه تحت السردية الأمريكية التقليدية المؤيدة لإسرائيل والتي كان من الصعب المساس بها، ويؤكد على حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان.
من جامعة كولومبيا إلى جامعات أمريكية أخرى، يتجلى مشهد لم ير النور منذ حرب فيتنام، يؤسس لتغيير جذري في توجهات الرأي العام الأمريكي والعالمي، ويمهد لظهور ديناميكيات سياسية و إرهاصات جديدة تقوض الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل. إذ يبدو أن الصرخة التي أطلقها الطيار الأمريكي آرون شومل عندما أحرق نفسه أمام مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن لا تزال مدوية بقوة في في أعماق الشارع الأمريكي، لعلها تضع أساس جديد لتمثال حرية.
يشعل العدوان على غزّة حراك طلابي عالمي، فعدوى انتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية تحمل في أحشائها بذور تحوّلها إلى حركة عالمية ممكن أن تتلاحم دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، وأيضًا دعوى نيكاراغوا ضد ألمانيا لانخراطها في تسليح إسرائيل وتمويلها، فضلًا عن الدعاوى لمحاكمة قادة "إسرائيل" أمام محكمة الجنايات الدولية.
بات حراك طلاب الجامعات الأمريكية على أجندة المتابعة الدقيقة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكذلك الدول الأوروبية التي تشارك وتدعم العدوان على الفلسطينيين، لا سيما بعدما انتقلت شرارة انتفاضة الطلاب الأمريكيين إلى القارة العجوز كما حصل في جامعة السوربون الفرنسية، وهي الشرارة المرشحة لتعم كافة الجامعات الأوروبية، خصوصًا منها في تلك الدول الداعمة والراعية "لإسرائيل" وجرائمها الإبادية وتتغاضى عن القانون الدولي.
إن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية كبير وله تأثير عميق، إذ ليس سهلًا على أمريكا الإمبراطورية التي تدعي أنه رمز الحرية والديمقراطية في العالم أن تواجه طلّابها وشعبها بهذا الشكل دون قناع أو سردية ملفقة بإحكام، لاسيّما بعد عزلتها الدولية الأخلاقية وهي تستخدم الفيتو لعدة مرات ضد وقف إطلاق النار في غزّة، ومؤخرًا ضد قرار قبول عضوية فلسطين الكاملة في منظمة الأمم المتحدة، ما يفضح ادعاءاتها الكاذبة بـ"حلّ الدولتين" التي سحقها بنيامين نتنياهو تحت جنازير الدبابات، كما سحق من قبله شارون "المبادرة العربية للسلام" لحظة إطلاقها في بيروت.
أصبحت الحرب على غزة، التي تعد من أطول حروب التي يخوضها الاحتلال، بمثابة مرجل لتحولات كبيرة تؤثر لا على المنطقة فحسب بل على العالم أجمع. وأصبحت سمعت أمريكا الأخلاقية تتهاوى بسرعة، فالادعاء الأمريكي بالحرص على منع توسع الحرب لا يتناسق مع مشاركتها الفعالة من خلال الدعم العسكري والتسليح والتمويل لإسرائيل، هذا القناع الأخلاقي الي تخفت وراه أمريكا سقط يوم 7 أكتوبر/تشرين الماضي، بالتوازي مع سقوط أسطورة الاحتلال العسكرية، وللمرة الثانية يسقط القناع وأسطورة الاحتلال الذي لا يقهر بعد ضربة إيران.
هل تقود انتفاضة طلاب أمريكا إلى حراك طلابي عالمي؟
ليس أمرًا بسيطًا أو ثانويًا أن يشكّل طلبة جامعة كولومبيا، بوصفها المصنع الذي يقدم لدولة الأمريكية جنرالات السياسة والحروب، رأس حربة نزع صفة القداسة عن "فزّاعة اللا سامية" التي طالما استُخدمت كوسيلة للاغتيال المعنوي وأحيانًا الجسدي لكل من ينتقد إسرائيل عالميًا. وفي ظل هذه الأجواء، قام رئيس مجلس النواب الأمريكي، مايك جونسون، بقيادة مجموعة نيابية في عملية مداهمة لحرم جامعة كولومبيا بهدف تهديد الطلاب والحجر على آرائهم الرافضة للاعتداءات على الفلسطينيين، ما أدى إلى إغلاق بعض الجامعات وإحالة ملفات مخيمات الطلاب إلى الجهات الأمنية لتدجين الطلاب وإخضاعهم و"إدانة سلوكهم" كما يطالب نتنياهو.
إن انتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية تحمل بذور تحولها إلى حركة عالمية قد تزعزع الاحتلال وتهدد وجوده وشرعيته. لم تعد الأسئلة حول مستقبل الاحتلال مجرد ترف للحالمين بتحرير "فلسطين من البحر إلى النهر"، بل شعار يرفعه طلاب جامعات الولايات المتحدة، الذين يُتهمون يتم اغتيالهم باسم معنوياُ بشماعة معاداة السامية، على الرغم من أن بعض قادة هذه الانتفاضة الطلابية يهود لكنهم ليسوا صهاينة، كما هو الحال مع جو بايدن.