رمضانُ وعاء الذّكريات التي ينبعي ألّا تكون محضَ حكاياتٍ للتّغني بالأمجاد السّالفة؛ بل هي شعاعٌ ساطعٌ من ذلك الماضي يسري إلى حاضرنا لينير لنا الدّروب إلى المستقبل الذي ننشد والذي يجب أن يكون.
في رمضان كانت ذكرى معركة الزلاقة، التي وقعت عند كثيرٍ من المؤرخين في التاسع من رمضان سنة 479 هـ ومنهم من قال: إن أحداثها كانت في الثاني عشر من شهر رجب من العام نفسه.
عندما تُفرَضُ الجزيةُ على حكّام المسلمين
دخل ملك الإسبان ألفونسو السّادس مدينة طليطلة، فنقض العهود التي كان قد أبرمها مسبقًا مع أهل المدينة وحوّل المساجد إلى كنائس على مرأى ومسمع ملوك الطوائف الذين كان يعيث الخور والهوان بقلوبهم.
فرض ألفونسو السّادس الجزية على ملوك الطوائف وعمد إلى تخريب محاصيلهم من خلال شنّ الغارات المتتالية على ممالكهم، وتحت وطأة هوانهم وتفرّقهم؛ استولى على قلاعهم الواحدة تلو الأخرى.
امتدت مرحلة ما يُعرف بـ "ملوك الطوائف" ما بين 400هـ و483هـ وفي هذه المرحلة تفتّت الأندلس إلى دويلات متقطّعة الأوصال والأوردة، متناحرة فيما بينها وقد بلغت أكثر من عشرين دويلة يتنافخُ حكّامها شرفًا بحكمهم الموهوم عليها، وحفاظًا على هذه الكراسي الصّغيرة اشتعلت الحروب الطّاحنة بينهم، فتسابقوا إلى كسب مودّة عدوهم الذي يريد الشرّ بهم جميعًا دونما استثناء فاستعانوا به على قتال بعضهم البعض، وقد بلغ الذل والهوان مبلغًا غير مسبوقًا فدفعوا الجزية صاغرين لأمراء قشتالة وأراغون وليون وغيرهم من قادة الصليبيين، وتنازلوا لهم طوعًا وخيانةً عن بعض مدنهم وحصونهم؛ فأيّ هوانٍ بعدَ هذا الهوان؟!
بين رعي الإبل ورعي الخنازير
في تلكم الحلقة القاسية أحسّ المعتمد بن عبّاد ملك إشبيلية بالخطر الدّاهم الذي بلغ حدًّا غير مسبوقٍ فجمع العلماء والفقهاء، كما دعا إلى قمّة تشاوريّة عاجلة مع ملوك الطوائف أبلغهم فيها عزمه الاستعانة بدولة المرابطين في المغرب وأميرها يوسف بن تاشفين لمواجهة ألفونسو السّادس.
وعندما عرض ابن عبّاد الفكرة على ملوك الطوائف أبدوا تخوّفهم وقلقهم لمعرفتهم بطموحات يوسف بن تاشفين ومعاينتهم ما هم عليه من الخور والضّعف فحذّروا المعتمد من أنّ خطوته هذه قد تؤدّي إلى سيطرة ابن تاشفين على بلاده لينفرد بالسّلطان دونه، فقالوا له: "المُلْك عقيم، والسّيفان لا يجتمعان في غِمْد واحد".
حتّى ولده قد دبّت في نفسه هذه المخاوف فقال مخاطبًا والده: "يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدّد شملنا"، فأجابه المعتمد: "أي بنيّ؛ والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنّصارى فتقوم اللّعنة عليّ في الإسلام مثلما قامت على غيري".
ثم قال عبارته الشّهيرة التي سجلها التاريخ: "لأنْ أرعى الإبل عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو.
يومٌ من أيّام الله
وصف ابن الأثير في "الكامل في التّاريخ" يوسف بن تاشفين بقوله: "وكان حسنَ السّيرة خيّرًا عادلًا، يميل إلى أهل الدّين والعلم ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم".
فعندما تسلّح ابن تاشفين بالعدل وانحاز إلى الرعيّة وقرّب خيارهم من النّاصحين؛ أجرى الله تعالى التغيير على يديه رغم كلّ ما كان في الواقع من ظلمة تبعث على اليأس.
عبر ابن تاشفين مضيق جبل طارق وتمكّن من الوصول إلى قرطبة وإشبيلية ثمّ توجّه شمالاً نحو قشتالة حيث يحكم ويقيم ألفونسو السادس؛ فوصل "الزلّازقة"، وفي طريقه إليها كان ينضمّ إليه في كل موقع أعداد من المسلمين، فبلغ جيشُه نحو ثلاثين ألف مقاتل، بينما بلغ جيش ألفونسو ثلاثمئة ألف مقاتل ؛ أي عشرة أضعاف جيش ابن تاشفين.
وجاء في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب": "وجمع يوسف أصحابه وندب لهم من يعظهم ويذكّرهم فظهر منهم من صدق النيّة والحرص على الجهاد واستسهال الشهادة ما سرّ به يوسف والمسلمون".
كما جاء في "الرّوض المعطار في خبر الأقطار": "ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعُبَّاد يعظون الناس ويحضُّونهم على الصبر، ويُحَذِّرُونهم الفرار".
التحم الجيشان وكانت المعركة في جولتها الأولى لصالح ألفونسو وجيشه، ثم كتب الله النّصر المبين لجيش المسلمين، ولم تتحقّق مخاوف ملوك الطوائف من ابن تاشفين الذي جمعهم بعد الانتصار الكبير وأمرهم بالاتفاق والاتحاد وعاد إلى بلاد المغرب، وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة.
القدس؛ والحاجة لتجديد الذّكرى
يأتي رمضان هذا العام وتتجدّد ذكرى الزلاقة التي تؤكّد أنّ ملوك الطوائف اليوم الذين يخضعون للصهاينة وأسيادهم لن يجنوا إلّا العلقم ولن يحافظوا على كراسيهم بخضوعهم وهوانهم.
كما تؤكّد الزلّاقة أنّنا نستطيع أن نبعث النّور من قلب الظّلمة إن قرّرنا الانعتاق من ربقة الخضوع لأحفاد ألفونسو ممن يهيمنون على النظام العالميّ.
وتؤكد الزلّاقة أن عدوّنا لا يرقب فينا إلًّا ولا ذمّة ولا يفرّق بيننا في عدوانه وانتقامه؛ فإذا كان هذا حال أعدائنا معنا وهم يواجهوننا متّحدين فلماذا نواجههم متفرقين متصارعين على ملك موهوم ومناصب سرابيّة؟
وتؤكد الزلّاقة أنّ وحدة الصّف والتّجاوز عن حظوظ النّفوس والتّعالي على الخلافات أمام الخطر الأكبر الدّاهم هو سبيل تحقيق النّصر.
وتقول لكم القدس ويقول لكم مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذكرى الزلّاقة وفي هذه الأيّام الحاسمة من شهر رمضان المبارك: لأنْ ترعوا الإبل عند بعضكم بعضًا خير من أن ترعوا الخنازير عند نتنياهو وبايدن؛ أفلا تعقلون؟