فلسطين أون لاين

غزة... الطوفان والمحرقة

من انتصر في غزة؟

ما تحقق في غزة ترسيخ مقومات الصمود والثبات، ووضع حجر الأساس لمرحلة الانتصار الكبير، وبعثر معادلات الساسة، وكان ذلك أكثر من مجرد انتصار. وإن لكم يا شعب فلسطين مع هذا العدو جولات ستسجل نقاطاً إضافية في ملحمة التحرير المستمرة.

كان محمد (صلى الله عليه وسلم) مطارداً وفاراً مع صاحبه أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) والملاحقة له على أشدها حيث أنه "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآهم".... ونجحت رحلة الهجرة. وصفها الله تبارك وتعالى بقوله " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ " [التوبة: 40] فهل تحقق نصر لرجلٍ مطارد وملاحق. وحين تم التوقيع على صلح الحديبية والذي بمقتضاه غادر محمد (صلى الله عليه وسلم) مكة وقفل راجعاً دون أن يعتمر. واحتج أصحابه "أنرضى الدنية في ديننا". ورغم ذلك فقد كان نصراً استراتيجياً عبّر عنه القرآن الكريم بهذا المعنى " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً " [الفتح: 1] وتحقق ذلك على الأرض سياسياً واستراتيجياً في معركة محمد (صلى الله عليه وسلم) مع قوى الكفر حيث تحققت الأهداف وهو المعنى الأوضح للانتصار.

في عوامل النصر والهزيمة يمكن العمل على إسقاط منطقية التحليل الاستراتيجي لتقييم نتائج طوفان ومحرقة غزة بأسلوب علمي ومنهجي، بدايةً لابد من توضيح الاشتباه حول إشكاليات المعاني لتقييم المعارك والحروب سواء النصر أو الهزيمة، والنجاح أو الفشل. فالانتصار مفهوم عسكري في كينونته يوحي بتمكن أحد الطرفين المتحاربين من عدوه، وهزم إرادته، وتغير الواقع السياسي والعسكري الذي كان قائماً. بينما الهزيمة مفهوم عسكري في كينونته يوحي بالانكسار، وفقدان الإرادة والرغبة في القتال والاستسلام للطرف المنتصر، والقبول بشروطه مهما كانت مجحفة. أما النجاح مفهوم مدني في كينونته يوحي بالقدرة على اجتياز عقبة كبيرة كانت تعترض الطريق، وعملية النجاح في المفاهيم العسكرية هي عملية تراكمية تؤدي في النهاية لتحقيق الانتصار. بينما الفشل مفهوم مدني في كينونته يوحي بالعجز عن اجتياز عقبة كان يفترض اجتيازها، مما يؤدى إلى بقاء الأوضاع السياسية والعسكرية على حالها دون تغير جوهري. والإخفاق في تحقيق الانتصار المطلوب، لا يمكن أن نسميه هزيمة لأنه لم يترتب عليه تغير الواقع السياسي والعسكري.

على صعيد الأهداف في طوفان ومحرقة غزة فإن من الواضح أن غزة قد انتصرت حيث فشل العدو في تحقيق أهدافه. كان التركيز الإسرائيلي على الهدف الاستراتيجي بإنهاء وجود حماس لأن الخطر هنا لا يتحدد بوجود حماس المادي، بل الوجود المعنوي الذي يمثل الخطورة الحقيقية على الاحتلال والمشروع الغربي في المنطقة. حيث أن حماس حركة تحرر وطني، لها امتدادات فكرية وجماهيرية واستمرار حكمها أصبح ملهماً للحركات التحررية والعربية خاصة.

وعلى صعيد آخر أدرك الكيان الصهيوني حجم المخاطر التي ستترتب على وجود حماس، ما دامت لم تقبل بما قبلت به منظمة التحرير، لذلك كانت استراتيجية الإقصاء والإلغاء فكانت شروط الرباعية، وكان افتعال الأزمات الداخلية بتخطيط دايتون ومولر وتنفيذ عناصر فلسطينية ولم يتم الإنجاز. فكان لابد لإسرائيل من العمل المباشر، فبدأ مسلسل الحصار الاقتصادي وإغلاق المعابر، ومن ثم لم يكن من خيار أمام الكيان إلا استخدام القوة العسكرية المباشرة لإنهاء حماس عبر ضربة استباقية قبل طوفان ومحرقة غزة.

الهدف الاستراتيجي للاحتلال متمثلاً في إسقاط حماس وإنهاء حكمها لغزة وإعادة غزة إلى بيت الطاعة الصهيوني-الأمريكي... ولًّما لم يتحقق هذا الهدف بدأ التراجع خطوة خطوة... وبدلاً من تحقق ذلك استمرت وتعاظمت المواجهة في الميدان وصواريخ المقاومة استمرت في التساقط حتى على تل ابيب، وتوسعت "بقعة الزيت اللاهب" وزاد مدى الصواريخ وتضاعف عدد الصهاينة في الملاجئ وأصبحت الصواريخ تهدد جميع مناطق دولة الكيان.

ثم تراجع الاحتلال ليعلن أن هدفه وقف تهريب السلاح إلى المقاومة كما يزعم نتنياهو بالسيطرة على محور صلاح الدين وسيلجأ الاحتلال إلى من يساعده في ذلك ربما عبر "خبراء منع التهريب الأمريكيين" على حدود غزة، "وإعداد شبكة تكنولوجية وأمنية" وجدار أسفل وأعلى طول الحدود. ويمكن القول إن  هذه أهداف تكتيكية متواضعة لا تتناسب مع عدوان بحجم المحرقة ورغم ذلك فقد فشل الاحتلال في تحقيقها و قادة الكيان في الحقيقة أفصحوا عن أهداف العدوان غير مرة، وارتد كيدهم إلى نحرهم وظهروا خزايا أذلاء مع سقوط جميع الأهداف.

ومن هنا فإن الاحتلال لم يحقق أيًا من الأهداف الاستراتيجية، سواءً بإنهاء حكم حماس في قطاع غزة، أو بإعادة توازن الردع المفقود. وكذلك لم ينجز الأهداف التكتيكية سواءً إيقاف إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المغتصبات داخل فلسطين. وعلى صعيد حماس فقد كانت أمام خيارين إما الهزيمة: وهو ما كانت تشير إليه كل المعطيات المادية والعسكرية والسياسية التي بنيت عليها خطة حرب الإبادة، والتي كانت تقدر أن يتمكن الاحتلال من إنهاء حكم حماس في القطاع، وبالتالي هزيمتها. أو النجاح: هو ما كانت تسعى إليه حماس، ولسان حالها التحدي والصمود في وجه العاصفة وهذا ما حدث بالفعل. فقد حققت حماس شيئاً من أهدافها الاستراتيجية وذلك بالتمسك بالثوابت الفلسطينية، والعمل على إعادة الصراع مع اليهود إلى عمقه العربي والإسلامي. وتحقق إنجاز تاريخي بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وكسر الحصار ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني والانتصار البيٍّن.

كثر من الساسة يؤكد بأن الاحتلال لم ينتصر في غزة، ولكن الحقيقة أن الشعب الفلسطيني قد انتصر في غزة، وكان لهذا الانتصار التاريخي ملامح كثيرة، أهمها ملامح عسكرية تمثلت في صمود الجبهة الداخلية, وبسالة المقاومة على الأرض رغم قلة العتاد والعدة, بقى الجيش الذي لا يقهر تائهاً مرتبكاً نعم إنها بواكير المعارك على أرض فلسطين ولذلك دلالة كبرى, ولم يحدث الاستسلام المنشود رغم حجم الكارثة وحرب الإبادة وكمية المتفجرات التي تم إلقاءها على غزة, وتحققت استراتيجية المقاومة على الأرض بدون خسائر فادحة وذلك باستيعاب الصدمة الأولى مع الحفاظ على القيادة والروح المعنوية العالية. وصاحب ذلك طول المدة الزمنية للعدوان مع عدم تحقيق الأهداف وذلك يمثل خسارة ذات مغزى حيث صرح الخبير اليهودي كوردسي "(إسرائيل) انهزمت استراتيجياً في غزة"، حيث غدا ملايين في الملاجئ ونازحيين وقصفت على مدار أيام المحرقة وأذلوا الجيش الذي زعموا أنه لا يقهر.

كما كانت هناك ملامح شعبية للانتصار تمثلت في الثبات والطمأنينة والهدوء الشعبي، وازدياد شعبية حماس وغزة وفلسطين مما ولّد أفكاراً جديدة إبداعية لنصرة القضية علاوة على إحياء القضية في قلوب الملايين " الشارع في العالم انتفض تأييداً لغزة" وغدت غزة ملهما علاوة على ذلك الاحتضان الشعبي الرسمي للمقاومة وتكريسها كبرنامج شعب.

أما الملامح السياسية للانتصار فقد تمثلت في عدم تقديم أي تنازل سياسي من المقاومة، وتقديم ضربة لمشروع التسوية في المنطقة، إعلان وقف إطلاق النار المتوقع مع صفقة تبادل، أيضاً الاعتراف بحماس لاعباً أساسياً في الإقليم، المسارعة الدولية لإنقاذ المشروع الصهيوني. وصاحب ذلك سباق النصرة الرسمي والشعبي لغزة، وبروز قوى سياسية مثل الدور التركي والمصري والقطري وتعزيز علاقتها مع فلسطين القضية، سقوط خيار القوات الدولية، تفرق حلف اليهود والمنافقين، إطلاق أكبر مشروع لمحاكمة مجرمي الإبادة وعلاوة على كل ذلك كانت الهزيمة الأخلاقية للاحتلال.