أواخر الشهر الماضي، غادر جرّاح التجميل والترميم الأميركي عرفان غالاريا منزله في ولاية فرجينيا لينضمّ إلى مجموعة من الأطباء والممرضات الذين سافروا للتطوّع في غزة.
ووصف غالاريا في مقال لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية، ما يحدث في غزة بـ"الإبادة"، حيث أسفر العدوان الذي يشنه جيش الاحتلال عن استشهاد أكثر من 28 ألف فلسطيني.
وروى أنّه خلال رحلته من القاهرة إلى رفح عند الحدود المصرية مع قطاع غزة والتي استغرقت حوالي 12 ساعة، رأى طوابير من شاحنات المساعدات الإنسانية المتوقّفة تمتد على مسافة تبلغ أميالًا، بسبب عدم السماح لها بالدخول إلى غزة.
رواية بائسة
في 29 يناير/ كانون الثاني الماضي، دخل الفريق الطبي جنوب غزة. ووصف الطبيب المشهد هناك بأنّه "الصفحة الأولى من رواية بائسة".
وأضاف أنّ آذانهم تخدّرت من الطنين المستمرّ لمسيّرات المراقبة الإسرائيلية التي تُحلّق باستمرار، وأنّ أنوفهم أُزكمت من رائحة مخلّفات مليون إنسان نازح يعيشون في مساحة ضيقة دون مرافق صرف صحي مناسبة، بينما ضاعت أعينهم في بحر الخيام.
بات الفريق ليلته في بيت ضيافة في رفح. كانت الليلة الأولى باردة جدًا، فلم يتمكّن الكثير منهم من النوم، ووقفوا على الشرفة يستمعون إلى أصوات القنابل، ويُشاهدون الدخان يتصاعد من خانيونس.
لا ملاذ آمن
وفي اليوم التالي، اقترب الطاقم الطبي من مستشفى غزة الأوروبي، حيث كانت تصطف الخيام على جانبي الشوارع وتُغلقها، بينما تزاحم العديد من الفلسطينيين نحو هذا المستشفى وغيره من المستشفيات على أمل أن يمثل ملاذًا آمنًا لهم.
ولكنّهم كانوا مخطئين، وفقًا للطبيب الذي أشار إلى أنّ الناس انتشروا في ممرات المستشفى، وممرات الدرج وحتى حجرات التخزين، حيث تقلّصت الممرات التي صمّمها الاتحاد الأوروبي لاستيعاب حركة المرور المزدحمة للطاقم الطبي والنقالات والمعدات، إلى ممر واحد ضيق.
وأضاف أنّه على كلا الجانبين، عُلّقت البطانيات من السقف لإنشاء مناطق صغيرة لعائلات بأكملها، مما يوفّر قدرًا من الخصوصية. والمستشفى المصمّم لاستيعاب حوالي 300 مريض امتلأ بأكثر من ألف مريض ومئات آخرين يبحثون عن ملجأ.
جراح تجميل واحد
ووفقًا للطبيب، كان هناك عدد محدود من الجرّاحين المحليين المتاحين، حيث قيل لهم: "إنّ الكثيرين منهم قد قُتلوا أو اعتُقلوا، ولا يُعرف مكان وجودهم أو حتى مصيرهم، بينما حُوصر آخرون في مناطق محتلة في الشمال أو في أماكن قريبة حيث كان الذهاب إلى المستشفى محفوفًا بالمخاطر".
وقال: "لم يتبق سوى جراح تجميل محلي واحد، يعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، حيث بات المستشفى مأواه بعد أن دمّر الاحتلال منزله، وتمكّن من وضع جميع ممتلكاته الشخصية في حقيبتين صغيرتين لليد".
وكان هذا الجرّاح محظوظًا لأنّ زوجته وابنته لا تزالان على قيد الحياة، على الرغم من أن كل شخص آخر يعمل في المستشفى كان قد فقد واحدًا على الأقل من أحبائه.
بتر أعضاء بمنشار تقليدي
بدأ غالاريا العمل على الفور حيث كان يُجري بين 10 و12 عملية جراحية يوميًا، ويعمل بين 14 إلى 16 ساعة دون توقّف.
وقال: "كانت غرفة العمليات تهتزّ باستمرار جراء التفجيرات المستمرة، التي تتكرر أحيانًا كل 30 ثانية. وعملنا في أماكن غير معقّمة لا يُمكن تصوّرها".
وأضاف: "كانت قدرتنا على الوصول إلى المعدات الطبية الحيوية محدودة، وكنا نقوم بعمليات بتر للأذرع والأرجل يوميًا باستخدام منشار غيغلي، وهو أداة من عصر الحرب الأهلية في أميركا، وهو في الأساس قطعة من الأسلاك الشائكة. وكان من الممكن تجنّب العديد من عمليات البتر لو توافرت المعدات الطبية العادية".
وبينما كان يقودهم إلى غرفة العمليات لإجراء الجراحة، استمع الطبيب إلى مرضاه وهم يهمسون بقصصهم له، وكان أغلبهم نائمين في منازلهم عندما تعرّضوا للقصف.
وقال: "لم أستطع منع نفسي من التفكير في أن المحظوظين ماتوا على الفور".
أما الناجين، فواجهوا ساعات من الجراحة ورحلات متعدّدة إلى غرفة العمليات، وكل ذلك أثناء الحداد على فقدان أطفالهم وأزواجهم، بينما كانت أجسادهم مليئة بالشظايا التي كان لا بد من انتزاعها جراحيًا من لحمهم، قطعة تلو الأخرى.
من سيعتني بالأيتام؟
وأكد غالاريا أنّه توقّف عن تتبع عدد الأيتام الجدد الذين أجرى لهم عمليات جراحية. وقال: "بعد الجراحة يتمّ نقلهم إلى مكان ما في المستشفى، ولست متأكدًا من الذي سيعتني بهم أو كيف سيبقون على قيد الحياة".
وأضاف: "في إحدى المرات، قام الآباء بنقل مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 8 سنوات، إلى غرفة الطوارئ. كانوا جميعًا مصابين بطلقات قنّاص في الرأس، بينما كانت هذه العائلات عائدة إلى منازلها في خانيونس على بعد حوالي 4 كيلومترات من المستشفى، بعد انسحاب الدبابات الإسرائيلية. لكن لم ينج أي من هؤلاء الأطفال".
"من غزة. مع الحب رغم الألم"
في آخر يوم له بغزة، عاد غالاريا إلى بيت الضيافة حيث كان السكان المحليون يعرفون أن الأجانب يقيمون، فركض صبي صغير وسلّمه هدية صغيرة. وكانت صخرة من الشاطئ، مع نقش عربي مكتوب عليها: "من غزة، مع الحب رغم الألم".
وقال: "وبينما كنت أقف على الشرفة أنظر إلى رفح للمرة الأخيرة، كنا نسمع حركة المسيّرات وأصوات التفجيرات ورشقات المدافع الرشاشة، لكن شيئًا ما كان مختلفًا هذه المرة: كانت الأصوات أعلى، وكانت الانفجارات أقرب".
وأعرب الطبيب عن شعوره بالذنب لأنّه تمكّن من المغادرة، بينما يضطر الملايين إلى تحمل الكابوس في غزة.
وقال: "كأميركي، أفكر في أنّ أموال الضرائب التي ندفعها، يتم شراء أسلحة بها لإصابة مرضاي، أو قتلهم. فهؤلاء طُردوا بالفعل من منازلهم، ولا مكان آخر يلجأون إليه".