يعود الانقسام الفلسطيني إلى جذر يتشكّل من عنصرين: الأول احتكار حركة فتح التمثيل الفلسطيني، وعدم قدرتها على استيعاب وجود منافس جدّيّ لها في الساحة الفلسطينية، والثاني الانحدار الذي قادته فتح بخياراتها السياسية، ومن موقعها متصدّرة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو الانحدار الذي حاولت حماس أن تعرقله بوجودها وخياراتها، هذا الجذر تجسّد لاحقًا في بنية قوية فوق الأرض، هي السلطة الوطنية الفلسطينية.
أدخل قيام السلطة الحركة الوطنية في أزمة مستحكمة، كانت الحالة الوطنية كلها قد دفعت ثمنها، ولكن حماس بحجمها الذي يعني قدرتها وحدها على منافسة فتح تمثيليًّا، وتاريخها الحافل منذ الانتفاضة الأولى في مزاحمة حركة فتح، ومن جهة أنها الأكثر قدرة على عرقلة الخطوات المنبثقة عن اتفاقية أوسلو؛ كانت قد دفعت الثمن الأكبر باستهداف السلطة للحركة الوطنية، وإنها _أي حماس_ دخلت في مرحلة من الحيرة والارتباك، كان يُفترض أنها انتهت بالانتفاضة الثانية.
بدت الانتفاضة الثانية كأنها قد أنقذت الحركة الوطنية كلها، ومع أن السلطة لم تتغير جوهريًّا، وظلت أوساط واسعة في فتح مرتبطة بالسلطة ومشروعها وبما يترتب عليها، شاركت أوساط واسعة منها في تلك الانتفاضة، منها ومن السلطة، بتوجيه من رئيسها ياسر عرفات، خلق ذلك شكلًا من الوحدة الوطنية، تبلور في قلب المواجهة، وبدت الحركة الوطنية أكثر عافية، والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة واحدًا بلا تمايزات في الهموم والقضايا.
لكن تلك الانتفاضة _وهي واحدة من أعظم ملاحم الفلسطينيين_ مع ما ترتب عليها من نتائج مهمة، جعلتنا في الموضوع الذي نحن فيه اليوم؛ لم تثمر تحولًا جوهريًّا في المسار الذي اختطته فتح، ولكنها أثمرت أزمات لتعقيد وغرابة ذلك النموذج الكفاحيّ، فقد ظلّت السلطة قائمة بالسياسات نفسها، ولم يكن بمقدور الفلسطينيين في بيئتهم الجغرافية والديموغرافية الاستمرار في نموذج كفاحيّ مفتوح، لاسيما مع افتقارهم الظهير، وبذلك توقفت تلك الانتفاضة، وبقيت السلطة الفلسطينية التي دخلتها حركة حماس.
نتج عن الانتفاضة تفكيك الاحتلال مستوطناته في قطاع غزّة وانسحابه فيزيائيًّا من هناك، سبق ذلك شعار: "شركاء في الدم، شركاء في القرار"، كانت حماس من أكثر من بذل دمًا في تلك الانتفاضة، وسفك دمًا للعدو، تراجعت قوّة السلطة، وتعاظمت قوّة حماس والمقاومة في غزّة، أغرى ذلك حماس للدخول في السلطة للمشاركة في القرار، وللحفاظ على المكتسبات التي ترتبت على انتفاضة الأقصى، ولمنع الاستفراد بالقرار الفلسطيني تحت شعار صندوق الانتخابات.
في المقابل كانت حماس، وبقية حركات المقاومة قد استنزفت نفسها في الضفة الغربية، حينما ألقت كل ثقلها، وكادرها وصفّها الأول في غمرة المقاومة، فعلت ذلك، ولم تتمكن _وفي طليعتها حماس_ من تعويض الاستنزاف وإعادة بناء الكادر، وقد تفاقمت تلك الخسائر مع عملية السور الواقي، ثم تأسس واقع، انبنى عليه أن كانت مهمة السلطة من بعد الانقسام سهلة في تفكيك الوجود المقاوم في الضفة، أو الوجود التنظيمي لحماس فيها، مع ما تركه ذلك من آثار عميقة على كادرها.
يمكنك إجراء مناقشة طويلة لفحص قرار حماس الدخول في السلطة في حينه، وتقليب الحجج المتدافعة كلّها، ولكن ثمة خلاصة من بين ذلك كلّه، أن فتح لم تكن قد تغيرت إلى الحدّ الذي تقبل فيه أن يزاحمها أحد على قيادة الفلسطينيين، أو أن "يستولي" على ثمرة عمرها (السلطة الفلسطينية)، وهذه الثمرة الأخيرة لم تكن قد تغيرت لتقبل تحولًا جوهريًّا في توجهاتها السياسية، وبذلك لم تستوعب السلطةُ حماس ولم تقبلها، أدى ذلك وما اتصل به من إرادات دولية أو إقليمية إلى الانقسام.
بقيت حماس حركة مقاومة، أسرت جنديًّا بعد فوزها في الانتخابات التشريعية بوقت غير طويل، وبعد الانقسام بنت قوّة مقاومة محترمة بالنسبة إلى ظروف وقدرات الشعب الفلسطيني، وهذا بصرف النظر عن أي سجال متعلق بأشكال وأوضاع وظروف توظيف تلك القوّة في سياق الصراع مع الاحتلال، وخاضت سلسلة حروب، وعادت وأسرت جنودًا، وبقيت تحاول في الضفة الغربية.
ولكنّها من جهّة أخرى لم تخاطب الشعب بالمقاومة فقط، أي في دخولها في السلطة، بل أيضًا بالإصلاح والتغيير والبناء، وهو ما لم تتمكن منه الحركة بحكم الحصار الذي فرض عليها، والحسبة الخطأ التي لم تراع معطيات الحالة الفلسطينية جيدًا، سيؤثّر هذا _لا شك_ على جماهيرية الحركة.
لكن الأخطر كان الصراع القاسي والعميق الذي دار بينها وبين فتح، وكانت ذروته فيما عُرف حمساويًّا بـ"الحسم العسكري"، لقد أزاح ذلك جذر الصراع _أي الاحتكار الفتحاوي وبرنامج الانحدار_ إلى الخلف، وقدّم صورة جديدة لا تخلو من الزيف والحقيقة في الوقت نفسه إلى الأمام، أي صورة الصراع على السلطة.
تعاملت بقية أطراف الحركة الوطنية مع هذا الصراع بقدر من الانتهازية، ومنها تلك التي استفادت من القاعدة التي وفّرتها حماس في غزّة، وأصرّت نخب وشرائح مجتمعية، وفعاليات من خارج التنظيمات على توصيف الصراع بأنه صراع على السلطة حصرًا، وساوت بين الحركتين، مسقطة السياق كلّه بالكامل، في حالة لا تخلو من الانتهازية والترفع المصطنع.
لكن ظلّت حقيقة ما، وهي أن ثمة صراعًا على السلطة، وأن من حقّ أطراف الحركة الوطنية النأي بنفسها عنه، لما كانت ليست جزءًا منه، دون أن يعني هذا الحقّ أن استخدامه لم ينعكس سلبًا أخلاقيًّا ووطنيًّا، لاسيما مع استخدام السلطة بعض تلك الأطراف.
الآن ثمة جهود مصالحة لا نعلم بعد مآلها، وهذه الجهود تستحق _لا شك _ تحليلًا في سياقاتها ودوافعها من جهة الأطراف كلّها التي ترتبط بها، لكن ما أودّ قوله هنا _وقد حاولت ذلك التحليل في مقالات أخرى_ إن ذلك الجذر الذي أورثنا الانقسام والأزمة التي نعانيها ينبغي أن يكون اليوم محلّ اهتمام كل الحركة الوطنية، هذه الحركة التي ينبغي ألا تغطي اليوم سلبيّتها وعجزها وانتهازيتها بالصراع على السلطة، فحماس تعود خطوات إلى الوراء في موضوع السلطة والحكم، مخلّفة إرثًا من البناء المقاوم، وأرضية للمقاومة استفاد منها الجميع، ولكن تبقى ألغاز ومخاطر تنفتح ضمن ظروف حوارات المصالحة الجارية، تفكيكها والتحسب لها ينبغي أن يبدأهما الجميع، من الآن.
المركز الفلسطيني للإعلام