بلغ الأمر بعبد القادر الحسيني، بعدما عجز عن تحصيل الدعم اللازم من الدول العربية، ومن اللجنة العسكرية العربية المشتركة، أن يسعى لدى الاتحاد النسائي في القدس، لعل نساء القدس يستنجدن بالاتحادات النسائية العربية لطلب الدعم للمجاهدين الفلسطينيين بين يدي النكبة الفلسطينية، كان ذلك في آذار/ مارس 1948، لينطلق بعدها الحسيني في نيسان/ إبريل إلى دمشق، للقاء قادة اللجنة العسكرية العربية المشتركة، الذين كدّسوا السلاح في مخازن "جيش الإنقاذ"، ورفضوا منحه للمقاتلين الفلسطينيين، ليقول لهم أخيرا: "إنّكم تخونون فلسطين.. إنّكم تريدون قتلنا وذبحنا".
باتت قصّة عبد القادر الحسيني مع اللجنة المشتركة من كلاسيكيات المأساة الفلسطينية، حتى استدعاها أخيرا، دون تفصيل، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، بمناسبة دخول الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزّة شهرها العاشر.
لقد قال البعض بالفعل إنّ عبد القادر الحسيني، ومن معه في "جيش الجهاد المقدس"، قد سلك منحى انتحاريّا أو متهوّرا، حينما هاجم قرية القسطل واحتلها واستشهد فيها. لكن ماذا كان عساه أن يفعل وهو يعاين ضياع القدس، بسبب ذاك الموقف العربي؟! صار واضحا أن النظام العربي الذي كان آخذا في التبلور بين يدي النكبة وأثناءها، قد كان عقبة أمام دفاع الفلسطينيين عن أرضهم، وأنّ التشكيلات التي انبثقت عن الجامعة العربية كاللجنة المشتركة و"جيش الإنقاذ"، لم تفعل ما كان بإمكان الفلسطينيين فعله وقتها لو مُدّوا بالسلاح، وعلى الضدّ من ذلك كانت من أسباب الهزيمة، التي لا تسقط مسؤوليتها عن العرب بالتقادم، تماما كما أنّ تلك الهزيمة العربية التي دفع ثمنها الفلسطينيون، كانت انتصارا صهيونيّا وبريطانيّا.
لا يعيد التاريخ هنا مع غزّة نفسه، ولكنه يكشف عن المآلات الحتمية للتأسيس الاستعماري للنظام الإقليمي العربي، الذي انبنى في إطار كان من مكوناته الأولى قيام "إسرائيل"، ومنذ تلك اللحظة، صارت القضية الفلسطينية عدوّا للنظام العربي، ليس فقط للتناقض الجوهري من الناحية التأسيسية المشار إليها بين القضية ونشأة ذلك النظام، ولكن أيضا لأنّها رافعة التسييس والتنوير للجماهير العربية. وهذه حالة ضمنية مضادّة لمصالح الأنظمة الحاكمة في هذه الوحدات السياسية المصنوعة على عين المستعمر، وبالنحو الذي يجري فيه ميكانيكيّا توريث التضادّ الجوهري بين الواقعة الاستعمارية العربية، وبين الرافعة التحررية الفلسطينية، وهو ما كان يعني بالضرورة استمرار الاندفاعة العربية النظامية من الدعم الشكلي للفلسطينيين مع التخلي الفعلي عنهم، إلى الاصطفاف الكامل في الخندق الإسرائيلي، كما يتجسد ذلك الآن في اتفاقات التطبيع التحالفي بين عدد من الدول العربية و"إسرائيل"، والتواطؤ الفعلي مع الحرب الإسرائيلية برجاء القضاء على حركة حماس، لأنّ المصلحة واحدة بين طرفي الواقعة الاستعمارية؛ الكيان الإسرائيلي والنظام العربي الممتد عن السياق الاستعماري القديم بالتزامن مع تأسيس "إسرائيل".
لم يكن عبد القادر الحسيني منتميا يومها لما صار يُسمّى "الإسلام السياسي"، لم تكن جماعته جماعة إخوانية، ولم تكن ساعتها "الجمهورية الإسلامية في إيران" قد قامت. فالتآمر على حماس اليوم هو عينه التخلّي عن عبد القادر الحسيني في العام 1948، والتآمر على حماس ربما يأخذ دفعة زائدة لكونها موسومة بـ"الإسلام السياسي" والمرجعية الإخوانية والعلاقة بإيران، ولكنه في حقيقته ومن حيث كونه ممتدّا عن المسار التاريخي العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية؛ هو تآمر على القضية الفلسطينية نفسها، فلو كان الذي في وضع التصدّي لحرب الإبادة الجارية على فلسطين الآن أيّ فصيل فلسطيني آخر، سيتخذ نظام التطبيع العربي الموقف نفسه منه، لأنّه ضدّ فلسطين بقدر ما هو ضدّ مقاومة أهلها بقدر ما هو ضدّ حماس نفسها.
يُفترض أنّ حربا كهذه طال أمدها، واتسمت بالإبادة الجماعية، وقصدت تدمير قطاع غزّة بالكامل، أن ترفع من الاعتبارات الأخلاقية، وأن تذكي عوامل التضامن الديني والثقافي والقومي، بما يلغي أيّ حساسية تجاه حركة حماس، لأجل إنقاذ أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزّة، لكن وبما أنّ ذلك كلّه، لم يدفع النظام العربي للجدّ حتى في إغاثة الفلسطينيين إنسانيّا، فإنّ هذا النظام بالضرورة يعدّ الحرب الإسرائيلية حربه هو.
فلو أنّ عبد القادر الحسيني مُكّن من النظر إلى ما يفعله العرب اليوم، فإنّ ردّ فعله سيفوق خيبة الأمل التي توقّعها الناطق العسكري للقسام، لأنّ من منع السلاح عنه بحجة أنّه سيقاتل نيابة عنه، هو اليوم ينضمّ صراحة إلى الإسرائيلي، ليس فقط لأنّه ممتنع عن أيّ خطوة دبلوماسية مهما كانت تافهة كاستدعاء سفيره من "تل أبيب"، ولكن لأنّه صريح في موقفه الإعلامي والدعائي بالعداء للمقاتلين الفلسطينيين وتبنّي الدعاية الإسرائيلية، وعلاوة على ذلك، وهو ممتنع عن إغاثة الفلسطيني الملاحق بالجوع والعطش والقتل والدمار والمفروض عليه النزوح المستمر، مستمرّ في إغاثة الإسرائيلي بدفع قوافل التجارة معه إليه بما فيها من غذاء في محاولة حربية منحازة له؛ ردّا على الحصار البحري الذي تحاول جماعة "أنصار الله" اليمنية فرضه على الإسرائيلي.
عدّ الناطق باسم القسام ما فعله المقاتلون العرب اليوم من أنصار المقاومة الفلسطينية تحقيقا لمفهوم "النصرة والوحدة العربية"، في هذا الإطار، عبّر عن موقفين بخصوص الحالة العربية؛ الموقف من شعوبها وجماهيرها، بالقول إنّ "ضميرهم الجمعي" مع المقاومة وإنّهم سئموا "التضامن اللفظي الخجول والعجز الرسمي المقيت"، والموقف من الحكام الذين قال إن خيبة عبد القادر الحسيني منهم اليوم ستكون كبيرة، ووصف حالهم بأنّ "عجزهم بات أكبر، وتقاعسهم وخذلانهم أصبح أشدّ وأقسى".
وهذا الموقف بقدر ما يكشف عن الطابع الاستعماري للنظام العربي مما يجعله في حقيقة الأمر نقيضا لشعوبه بقدر عدائه للقضية الفلسطينية، فقد كشف عن مسؤولية أخلاقية، تبدّت في كون المقاتل الفلسطيني رحيما بالشعوب العربية، يدرك ظرفها جيدا، ولا يطلق غضبه إليها، ولا يمنّ عليها بقتاله، ولا يفتعل معها معركة إذ يعلم بنحو ضروريّ أنّها ضحية ما هو ضحيته، أي ذلك النظام العربي الممتد عن تلك الواقعة الاستعمارية التي أسّست "إسرائيل" يوم أسّسته هو!