شهدت القضية الفلسطينية العديد من محطات التحول بعد اتفاق أوسلو الذي بدأ العمل به عام 1994، والذي كشف عن المخاطر الإستراتيجية التي عرقلت إعلان الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، التي تمثل جلها في إنكار الاحتلال الصهيوني لحقوق الشعب الفلسطيني، بالرغم من اعتراض معظم مكونات شعبنا على الاتفاق، ولا سيما أنه لم يلبِّ الحد الأدنى من الحقوق الوطنية التي يتمثل جزء منها في الأرض، والقدس، والأسرى، واللاجئين، لكونها أعمدة رئيسة في بناء الدولة واستقلالها ورسم حدودها المؤقتة، لأن دولة فلسطينية مجزأة الأرض والسيادة لا تتوافق مع مشروع المقاومة الفلسطينية ومع تضحيات أبناء شعبنا التي تعبر عن المفهوم الحقيقي للمسار الأوحد نحو التحرير واستعادة الأرض وكنس الاحتلال.
الكثير من الرؤى والإستراتيجيات لم يعد مجديًا في مسار التحولات عبر التاريخ، وبالتحديد قبل انتفاضة الأقصى عام 2000 التي أعادت للفلسطينيين الكثير من الاعتبارات بعدما انخرطوا في مشروع المقاومة الشعبية، والالتحام من جديد في وجه الاحتلال، وإعادة بناء الفكر الإستراتيجي الذي غُيب بفعل السطو على مشروع المقاومة وأهدافها الإستراتيجية التي باتت تمثل اليوم الخيار الوحيد للشعب الفلسطيني، ولا سيما في ظل غطرسة حكومة اليمين التي تترأسها عصابات الليكود والصهيونية الدينية المتطرفة التي لم تُبقِ للفلسطينيين في الضفة مُتنفسًا في الأرض، ولا بصيص أمل نحو إعادة خريطة الأرض التي اغتصبها الاستيطان منذ سنوات، وتوسع بشكل غير مسبوق منذ مطلع العام الجاري، والذي يأتي ضمن مخططات وزير المالية "سموتريتش" الذي يرعى الاستيطان في الضفة الغربية.
وفي هذا السياق لم يعد للفلسطينيين أصحاب الأرض الصمت أمام مسارات التحول الخطيرة، بعد انتهاك الاحتلال المطالب الفلسطينية في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية جميعها، التي أكدت مشروعية الفلسطينيين في أرضهم وحمايتهم من العصابات الصهيونية المجرمة التي ابتعلت الأرض وهوّدت القدس، وسلبت الهوية الفلسطينية من سكان الداخل المحتل عام 1948، ودمرت البنية التحتية في الضفة وقطاع غزة بفعل الحروب والمجازر التي ارتكبها الاحتلال منذ سنوات الصراع، وهو ما تطالب بمواصلته الأحزاب اليمينية المتطرفة في حكومة نتنياهو، بعدما طالب وزير الأمن الوطني "بن غفير" وبجانبه وزراء متطرفون بسحق الضفة وغزة وإعادة احتلالهما من جديد، وإلغاء قانون فك الارتباط الذي أعلنه الاحتلال عام 2005 بعد الانسحاب الصهيوني من مستوطنات قطاع غزة والضفة الغربية.
اقرأ أيضًا: لكل فعل رد فعل …
اقرأ أيضًا: الضفة الغربية على خطى قطاع غزّة
وهو بالفعل ما بدأت تُعاد قراءته صهيونيًا خلال الاجتماعات المغلقة، وتطرح العديد من الإستراتيجيات للسيطرة إداريًا وأمنيًا على الضفة الغربية كاملة، فقد دعا زعيم الصهيونية الدينية "سموتريتش" إلى تفكيك السلطة الفلسطينية في الضفة، ووقف المساعدات المالية عنها، وتجنيد ملايين الدولات لإعادة ضم كل المناطق، وبشكل متدرج وخلال مدة زمنية قياسية، لفرض السيادة المطلقة، وذلك في سياق الخطط التي أقرت الحكومة الصهيونية جزءًا منها في فبراير هذا العام، حيث يشتد عود الاحتلال بالتزامن مع اتساع دائرة التطبيع في المنطقة ودفع عجلة العمل الدبلوماسي الصهيوني بسرعة فائقة للوصول إلى عمق المنطقة، لكونها أحد التحولات التاريخية التي أسهمت في تحول مسار القضية الفلسطينية.
لا أحد ينكر أن أسباب هذا التحول تعود بالفعل إلى الموقف الداخلي الفلسطيني الذي يشهد كذلك انقسامات حادة، أثرت في مشروع المقاومة، حيث استثمر الاحتلال عوامل الانقسام، وجنّد لتعزيز ذلك توجهاته الأمنية والسياسية، بعدما كرس الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، في إطار خنق القطاع وعزل الضفة، وفرض حصار وإغلاق محكم لا يزال قائمًا، في حين لا تزال المقاومة في قطاع غزة تتصدى وبشكل كبير وبما استطاعت من صمود لإجراءات الاحتلال التي تسهم في الفصل الجغرافي والسياسي بين الضفة والقطاع، وبالرغم من أنها اصطدمت بالكثير من العوامل والمتغيرات التي فرضتها القوى الدولية، فإن المقاومة باتت تمتلك مفاتيح مهمة للضغط على الاحتلال وإحباط مخططاته وتوجهاته في الضفة وغزة.
نجحت المقاومة في تقويض خطط الاحتلال، وبشكل غير مسبوق، وباتت التحولات التي أصابت القضية الفلسطينية تتراجع شيئًا فشيئًا، بفعل موقف المقاومة وإستراتيجيتها التي أعدتها بالكثير من الصمود والتضحيات الجسام، والتمسك بالأرض وكل الثوابت الوطنية، حمايةً لشعبنا ومقدراته التاريخية، ودفاعًا عن المصالح العامة التي من الممكن أن تعيد للمنطقة كلها مكانتها ووزنها الحقيقي بين دول العالم، لأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.