نعلمُ أن التعظيم والتقدير محلّ كل التفاصيل المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما يتصل بسببٍ إليه هو في مقام الحب والاقتراب، والمولد النبوي حدث كبير افتتح هذه التفاصيل التي نعظّمها لكونها ترتبط برسول الله الذي هو مصدر هذه المشاعر التي تجتاحنا وتثير قلوبنا.
وأَعْلَمُ أن الاحتفال الطقْسيّ بالمولد من الثقافات الوافدة إلينا من الديانة النصرانية خاصة ولا سيما في طريقتها الطقسية التي اكتسبت بعد ذلك خصائصها الإسلامية التي ميزتها عن الثقافة الأخرى.
وأعلمُ أن الصدر الإسلامي الأول لم يحتفل بالمولد؛ لأن ذلك لم يكن من ثقافته الاجتماعية ولم يتعرض آنذاك لتأثير الآخرين حتى استقرار النظم الإسلامية بعد الفتوح، إذ تحول النصارى المسيحيون إلى مواطنين في الدولة الإسلامية، ولكن عدم الاحتفال وعدم ورود الأمر به أو فعله ليس دليلًا على منعه أو عدم شرعيته، فهذا من المسكوت عنه ما دام لم يُحسَب في سياق التبعية الثقافية للآخر والانجراف وراءه.
وأعلمُ أن سبب الاحتفال بالمولد ليس التقليد أو التبعية وإنما المنافسة في الحب، فقد كان المسلمون في مناطق الاحتكاك والمجاورة مع النصارى المسيحيين يرون شدة احتفاء النصارى بالمسيح عليه السلام، ويستمعون إلى ملاحظات بعضهم بأن المسلمين لا يحبون نبيهم كما يفعل المسيحيون بالمسيح، وكان هذا مما يجرح قلب العامة والمسؤولين عن الرعيّة بطوائفها، ورأوا أن الاحتفال بطريقتهم الخاصة هو تعظيم للنبي ورفع لمكانته وتأكيد لوجوب احترامه وأن مكانته تحظى بحضور كبير بدليل اجتماع الناس حولها في حفل جامع بالأذكار وتلاوة السيرة وإنشاد القصيد المادح فهذا مما يُفرح القلب المؤمن.
اقرأ أيضًا: مظلة النبيّ الأكرم
اقرأ أيضًا: فـرس النبي!
قضية الاحتفال بالمولد تفرض نفسها وبقوة في واقع المسلمين في الغرب، فأطفال المسلمين محرم عليهم المشاركة في احتفالات أعياد الميلاد هناك مِن مبدأ عقدي وعدم مشاركة النصارى في أعيادهم، وهم يَرَوْن أقرانهم يحتفلون ويتبادلون الهدايا وتدخل الفرحة على قلوبهم، فتأتي ذكرى المولد العطرة ومن باب الاعتزاز بنبينا وتقديرا لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام رأى بعض العلماء المحدثين وخاصة ممن استوعب فقه الواقع هناك جواز الاحتفال بذكرى المولد تحقيقا لما سبق ذكره من مقاصد.
وأعلمُ أن طائفة من الناس بعد ذلك أسرفت في طقوس الاحتفال وأدخلت فيه ما ليس منه، وأصبح الاحتفال عندهم ظاهرة احتفالية سياحية استعراضية ودخلت مضمار التجارة والمساومة حتى خرجت عن أصلها المحبوب الجميل.
وأعلم أن إنكار طقوس الاحتفال الخارجة عن خطوط المحبة التعبدية مما ينبغي بيانه للناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يجوز أن يحوز هذا الإنكار على مشهد الحب والتعظيم لرسول الله وإيذاء مقامه بشدة الإنكار وتجريح الأعيان وإطالة اللسان واستعمال العنف وتحويل المناسبة إلى موسم للتخاصم والكراهية.
وأجد نفسي في الوسط الأعلى بين مَن منع الاحتفال بالمولد النبوي وأفتى ببدعية الاحتفال وإثم المحتفلين، ومن يرى بفضيلة الاحتفال بالمولد وأجر من فرح به، فالأول أراد أن يقول لكم إن محبة رسول الله باتباعه فشدّد، والثاني أراد أن يقول لكم إن محبته بالفرح بكل ما يتصل به مما يفرح به الناس عادة. وعلى الأول أن يراعي جانب الروح في المحبة، وأن يتقي الله في الحكم على الناس والكشف عن قلوبهم... وعلى الثاني ألا يغالي في إظهار أشكال المحبة في صورة تخرج بها إلى المعصية، وإتيان المنكرات في الاحتفالات، مما يُغضِب صاحب المناسبة إذا رأى منّا ذلك؛ وأن يستغل المرءُ المناسبة في تعظيم شعائر الله وربط الناس بصاحب السيرة العظيم.
وعلينا أن نتعلم أن هذه الخلافات فرعية ولا يضيرنا اختلاف الناس فيها ما دمنا في مربع الحدود الشرعية ووسيلتنا التناصح فيها.. أما أنا فأقضي هذا اليوم العظيم بذكر الله وشكره على ما أسدانا به من نعمته العظمى علينا بإظهار نبينا العظيم في هذا الوجود. صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله وسلّم تسليماً كثيراً.