سنّت ديمقراطيات كثيرة في مختلف دول العالم قوانين تحدّد فترة منصب الرئاسة بعضها لدورتين فقط مثل أميركا، أو إمكانية الترشح بعد الحصول على موافقة ثلثي أعضاء البرلمان وغيرها من قوانين تهدف إلى منع مكوث الرئيس صاحب أعلى سلطة في موقعه لفترة تطول، لأن هذه وصفة لفساد السُّلطة.
يقول البعض إنَّه لا بأس من دورة ثالثة ورابعة وخامسة، ما دام أنّ الرئيس يحصل عليها عن طريق الانتخابات الديمقراطية والسِّرية، أي أنه لم يغتصب السلطة بالقوة!
الواقع أن الدراسات تثبت بأنَّ الفساد يزداد طرديًا مع طول فترة الحكم، وأنَّ النَّفس البشرية تتوق إلى التحكّم والتسلُّط، ويصبح الأمر نوعًا من الإدمان، لأنَّ بيد الرئيس سلطة اتخاذ قرارات حاسمة، فهو يمنح ويمنع ويقرِّب أو يبعد ويهمّش من صحن السُّلطة، ويبني حوله حلقة تشبهه دون أن يسمح لأحد منها بأن يقوى إلى درجة منافسته، ولهذا نفاجَأ بفصل من المناصب وتحديد الحركة وحتى توجيه تهم أمنية أو تهم في الفساد لبعضهم للتخلُّص منهم.
يعلِّل الخبراء أنَّ النَّفس البشرية تتوق إلى التملُّك، وهي عاجزة عن التحرُّر من متعة الجلوس في السُّلطة، واتخاذ القرارات وسيطرتها على الموارد والتوظيفات والتقريب والتهميش. يقول المركز الإفريقي للدراسات الإستراتيجية: إن أحد أسباب الحروب الأهلية الكثيرة والانقلابات في إفريقيا هو تجاوز رؤساء لهذه القوانين، من خلال تعديل دساتير لضمان الحكم لفترات جديدة، ثم لا يكتفون بهذا، بل يزوِّرون الانتخابات ويتلاعبون في النتائج.
في الدّول التي لم تحدّد فترات الرئاسة، يزداد القمع والفساد وعدم الاستقرار بصورة تدريجية، ويبلغ الفساد بعيدًا وعميقًا حتى يظن الناس أن الوعد بالتوظيفات مقابل الأصوات هو نهج طبيعي، بل وينصحون المرشح "إذا أردت أن تفوز فيجب أن تقدِّم الوعودات".
اقرأ أيضًا: أوراق السِّجن: من أروقة "الكنيست" إلى سجون الاحتلال
اقرأ أيضًا: "في بلدنا انتخابات"...
وصار المُوظَّف أو العامل يشعر بأنَّه ملزم بالتصويت لمن وظَّفه كردِ جميل، دون اعتبار إلى أنّه يستحق الوظيفة والعمل من غير جميل أو منة من الرَّئيس أو من هم أقل منه في السلطة.
لو أنَّ القانون في (إسرائيل) يمنع الترشُّح لأكثر من دورتين، لما وصل نتنياهو إلى ما وصله من فساد وإلى محاولة تعديل الدستور ليلائم فساده ويثبّته في الحكم لدرجة تهدِّد المجتمع وأمن البلاد كلها.
لو حُدِّدَت فترة الرئاسة للبلديات بدورتين فقط، لما كانت حاجة لرئيس بأن يدخل البيوت بيتًا بيتًا لإقناع الناس بالتصويت له مرة أخرى، ولما اضطر إلى أن يعِدَ العشرات وربما المئات بالتوظيفات ومزاولة الخداع، فالوظيفة الواحدة ممكن أن يعد بها ثلاثة أو أكثر ليضمن عودته إلى السُّلطة تحت مسمى انتخاب ديمقراطي، ولكنَّ الديمقراطية تراجعت تحتَ وطأة المصلحة الشَّخصية لهذا وذاك.
لو منع القانون الترشُّح لدورة ثالثة لانشغل الرؤساء في البناء والإنجازات وتطبيق القوانين على جميع الناس من غير تمييز بين هذا وذاك، ولما فرّط بعضهم بالملك العام وأموال الجمهور، لأنّه ليس بحاجة لهذا أو ذاك من أصله.
أما والحال كهذا فغالبًا ما تتحوَّل السلطة إلى الفساد والإفساد.
كثيرون وعدوا ناخبيهم وأنصارهم ومقربيهم أنهم سيتنازلون عن السُّلطة لغيرهم بعد دورتين فقط، "خلوني أنفّذ المشاريع"، ولكن عندما تقترب لحظة الحسم يفتعلون خلافات لينكثوا في وعودهم.
تشير دراسة صادرة عن المركز الإفريقي للأبحاث إلى أن طول الفترة الزمنية في المنصب، يرتبط في مستويات أكبر من الفساد.
وتحتل الدول التي لم تحدَّد فيها فترة رئاسة أو جرى تعديل دستور ليلائم تمديد الرئاسة المواقع الأكثر فسادًا في العالم، ومنها دول عربية وإفريقية كثيرة. هذا لا يعني أنّه لا يوجد فساد في الدول التي تحدّد فترات الرئاسة بدورتين، ولكنه فساد نسبي وأقل بكثير، والفرق شاسع بين الحالتين بخمسين مرتبة، إذ إن الدول الإفريقية التي حددت فترة الرئاسة تحتل المرتبة 88 في الفساد وعدم الشفافية، بينما تقبع الدول التي في قاع السّلم في المرتبة 134 من الفساد.
وتتوافق هذه الإحصاءات مع الأدلة بأن شبكات المحسوبية تزداد تكلفة كلّما طال بقاء القائد في منصبه، ما يؤدي إلى تبذير متزايد لموارد الدولة أو البلديات والمجالس أو أي مؤسسات أخرى.
الخلاصة، ليس عبثًا جرى تحديد دورتين فقط للرئاسة، لأنَّ لهذا تبريرات علمية، وبعد أبحاث وتجارب شعوب أثبتت فساد السلطة إذا طالت لشخص ما وفي هذا قال الإمام الشافعي:
إنّي رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب.