مهما كُتب عن حياة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، فهذا لا يغطي سوى مساحة بسيطة من المعاناة الحقيقية التي يمر بها الأسرى وعائلاتهم، كذلك لا يمكن لأيِّ مبدع كان أن ينقل إبداعات الأسرى وأفراحهم الصغيرة والكبيرة وخيباتهم ومشاعرهم في الحب والضعف والقوة والصمود وحتى الانهيار.
إنهم هؤلاء الذين دفعوا وما زالوا يدفعون حريتهم الشخصية ثمنًا من أجل حرِّية شعبهم.
أولئك الذين حُرموا من حياة عادية، وباتت صراعاتهم في داخل السُّجون مع الجدران وكيفية قضاء فترات محكومياتهم الطويلة، التي يصلُ بعضها إلى بضع مؤبدات.
ظروف السِّجن وعلاقة الأسرى بعضهم ببعض، وتحصيل حقوقهم أو مصادرتها منهم، وغيرها من ألوان المعاناة.
د. باسل غطاس ابن قرية الرامة الجليلية، مرَّ في تجربة الأسر مدة ثلاثة وعشرين شهرًا، تنقّل خلالها في بضعة سجون باستدارة حادّة، من عضوية الكنيست إلى السِّجن بتهمة تهريب هواتف إلى الأسرى.
قرّر باسل منذ لحظة دخوله السجن أن يكتب يومياته، وحَسنًا فعل.
فعل هذا تحت وطأة الخوف من مصادرة تعبه مع الورق الذي يكتبه، ومن هذه المخاوف فقدان كل ما يمكن خلال عمليات نقل الأسرى من سجن إلى آخر في البوسطة، فالهدف من النقل المستمر هو إرباك برامج الأسرى، وعزلهم عن بعضهم بعضًا وحرمانهم من الاستقرار.
كُتِب الكثير عن تجربة السجن في الوطن العربي، وكذلك في سجون الاحتلال، ولكل تجربة خصوصيتها ونكهتها.
تجربة د. باسل غطاس فريدة من نوعها، فقد انتقل بحدَّة من حياة نائب في البرلمان، مع كل الإمكانيات التي تمنح لعضو الكنيست، إلى أسير بتهمة أمنية، وتحريض غير مسبوق عليه من قبل الإعلام ورجال السياسة.
هي تجربة ثرية جدًا، استطاع الكاتب أن يوثق الكثير من الصور والحالات الإنسانية والمشاعر الجياشة.
كان غطاس النائب في الكنيست يزور السجناء ويستمع إلى مطالبهم وشكاواهم لنقلها إلى الخارج، في محاولة للتخفيف من معاناتهم، من ضمن هذه المعاناة كان حرمان بعضهم من جهاز الهاتف، الأمر الذي يعني مرور فترات طويلة دون أن يتحدثوا فيها مع أبناء أسرهم الأقربين، وخصوصًا أولئك الذين حُرموا لفترات طويلة من الزيارات.
كان مطلب الهاتف وتهريبه ضروريًا جدًا خصوصًا لبعض الأسرى الذين حُرموا من الزيارات وليس لديهم هواتف، يتحدث عن قراره بتهريب الهواتف، ثم يصف اللحظات التي جرى إلقاء القبض فيها عليه في الغرفة المخصصة للزيارة.
يكتب باسل غطاس بعين ثاقبة وفي لغة أدبية سردية بسيطة وجميلة، وفيها الكثير من المتعة إلى جانب المعرفة.
قُسم الكتاب إلى أحد عشر فصلا، وقد خُصّص كل فصل لموضوع محدّد، الأمر الذي يساعد القارئ على التركيز في موضوعة واحدة، وكل فصل مقسم بحسب اليوميات.
1. الفورة مركز حياة السّجن وأقسامه.
2. بريد متأخر، إرسال الرسائل واستلامها.
3. لستُ بخير، الأوضاع الصحية.
4. مدينة السِّجن الجامعية - الدراسة الأكاديمية.
5. شو الأخبار، زيارات الأهل والمحامين والأطباء.
6. جهنم اسمه البوسطة.
7. تبكي وتضحك، المناسبات الاجتماعية.
8. غيمةٌ في السَّماء، بعض حياة الطبيعة في السجن.
9. اقرأ عن سجون الآخرين: الكتب وقراءتها.
10. الرِّفاق أسرى عشتُ معهم.
11. أنت حرٌّ، اليوم الأخير في السِّجن.
يقول د. باسل في مقدمته "بدأت تختمرُ في ذهني فكرة إدخال هواتف نقّالة إلى بعض الأسرى السياسيين سنة 2016، وذلك بعد زيارتي إلى والدتيِّ الأسيرين كريم يونس ووليد دقة، حينها أدركت أنَّ أم حسني والدة وليد، تلك السَّيدة التي كانت على مدى عقود تُسمى ’أمُّ الأسرى’ وذلك لنضالها العنيد، ونشاطها بلا هوادة لمساعدتهم ودعم عائلاتهم، أصبحت عاجزة تعاني أمراضًا لن تمكّنها من زيارة ابنها ورؤيته، أما والدة كريم يونس، تلك المرأة الجبارة الصابرة، فقد هرمت وأصبحت زيارتها لابنها الذي أمضى في السجن أكثر من خمس وثلاثين سنة (في ذلك الوقت) معاناةً مضاعفةً".
"شغلتني قضية الهواتف وعدم توفّرها للأسرى، بينما أن منعها مخالفٌ للقانون الدولي، وطبعا فإن منع الاتصال هو إجراء انتقامي إضافي".
لا شك أن ما يبهر في الأسرى هو رغبتهم في التعلم، في الفصل الرابع يعالج الكاتب قضية التعليم داخل السجن!
سجن "هداريم" هو مدينة السِّجن الجامعية، أكثر من نصف الأسرى في "هداريم" يدرسون للقب البكالوريوس والماجستير في الدراسات الإسرائيلية.
التعلُّم في السِّجن يعني انتصار الأسير لنفسه ولأسرته وقضيته. من المشاهد المؤثرة، هي الامتحانات في يوم ماطر، إنّه مشهد مدهش كما يقول الكاتب.
بعض الأسرى يطلب وساطة من د. باسل لدى الأستاذ مروان البرغوثي كي يخفّف عنهم مادة الامتحانات، ولكنّه يرفض ذلك مبدئيًا لعلمه أن الشَّهادة التي يسعون للحصول عليها، يجب أن تكون جدِّية جدًا، وأن يكون معترفًا بها لتنفعهم في الحياة العملية بعد الخروج من السجن.
من النهفات الجميلة، أن الأسير أحمد سعد، المحكوم بالسجن 30 عامًا علّم نفسه بنفسه اللغة الروسية، حصل على كتب تعلُّم الروسية، وبعد أن صار يعرف الكثير منها، قرَّر أن يصبح معلمًا للروسية للسجناء، فدخل في دروسه اثنان كل منهما محكوم بالمؤبّد، وهما علي أبو هليل وناصر صلاح.
كان باسل يأخذ غفوة في المساء عندما استيقظ على الأستاذ أحمد وهو يصرُّ على تعليم اللفظ الصحيح لكلمة "باجلسطا" الروسية وتلميذه ناصر يصرّ على لفظها "باجالوستان" وكلاهما يرفع صوته، باجلتسا، باجالوستا.
ويفكر في هذا المشهد السريالي، ثلاثة محكومون بالسجن المؤبد يتعلمون الروسية التي قد لا يستعملونها أبدا في يوم من الأيام.
في فصل البوسطة، نجد عائلات لم تلتق مع بعضها البعض منذ 1987 وحتى في المناسبات المؤلمة، قد تجد في السِّجن الأب وأولاده، أو عدد من الأخوة.
"في كل قسم كنت فيه، وجدتُ فيه أخوة وأقارب مسجونين مع بعضهم بعضًا، شعب بكامل فئاته عانى ويعاني من الأسر الإسرائيلي"، ويصدف أن تجد في البوسطة شقيقين يجري نقلهما إلى الجلبوع وإلى نفحة، وذلك للمِّ شملهما مع والدهما الأسير هناك.
هل زرت أهلك اليوم؟ يسألُ الأسير أخاه الأسير ولا يقولون هل زارك أهلك؟ فالأسير يعتبر أنه هو الذي يزور أهله الذين ينتظرونه في غرفة الزيارة.
من أجمل الفصول في الكتاب هو الفصل السَّابع، الذي نجد فيه احتفاء الأسرى في المناسبات الاجتماعية، مثل أن يرزق الأسير أحمد شاهين بطفل بعد تهريب النطفة للخارج، ليرزق بطفل شقيقا لابنه الأول عمر الذي صار في السابعة عشر من عمره، إذ سجن والده هو في الثالثة، وبعد أربعة عشر عامًا من سجن الوالد سيكون لعُمَر شقيق بفارق عمر أربعة عشر عامًا.
واحتفاء أحدهم مثل الأسير مجد بربر بنجاح ابنه في التوجيهي بعلامة 91%، واحتفال آخر مثل رائد مراغة بعيد ميلاده، وإبداع الأسرى في صناعة كعكة كأنها من صناعة أحسن كوندتوريا، كذلك أجواء الاحتفال في عيد الأضحى المبارك، وحفلة حول أكلة المنسف المُتقنة، بمناسبة زواج ابن الأسير خليل أبو عرام المحكوم 7 مؤبدات.
يعبر الأسير المحرر باسل غطاس عن دهشته للثمن الذي يدفعه الأسرى وصمودهم الأسطوري، حتى يبدو له أنّ الثمن الذي دفعه، وهو ثلاثة وعشرون شهرًا في السجن، لا يساوي شيئًا أمام تضحيات هؤلاء الناس.
ثم قصة ذلك العريس المسيحي من بيت لحم (خالد شوقي حلبي) الذي سيجري تكليله بعد حب دام خمسة عشر عامًا مع فتاة تدعى (كلير) رفضت أن تتركه بعد سجنه، وأقيم الاحتفال والإكليل في كنيسة في قرية عابود بمشاركة هاتفية من العريس.
في ليلة عيد ميلاد السَّيد المسيح دخلت مجموعة كبيرة الأسرى من إلى غرفة باسل، كان أحدهم بلباس بابا نويل للتهنئة بالعيد، ومع كعكة ضخمة، وغناء.
في "عيد الفصح" احتفى الأسرى بالمسيحي الذي بينهم، وفي رمضان الكريم قرّر أن يصوم مع المسلمين وذلك لحساسية الموقف في الغرفة، ولكنهم رفضوا بحزم أن يصوم، لأنّه يتناول الأدوية، وطالبوه باستمرار حياته بصورة طبيعية.
بعد فطور اليوم الأول من رمضان، كانت المفاجأة هي التحلية بالبطيخ، كان هناك أسير لم يذق البطيخ منذ 15 سنة.
في كتابه هذا وثق باسل غطاس جانبا آخر من حياة الأسرى بما تحمله من معاناة وفي الوقت ذاته من صمود وتحد وإرادة حياة، كذلك فقد كشف عمق المحبة والكبرياء وروح العطاء التي يحملها هؤلاء الرِّجال.
في مقدمته كتب الأسير مروان البرغوثي الذي عاش معه باسل في الغرفة نفسها بعض الوقت.
"عرفت الصديق باسل غطاس في إطار زيارته لي مرات عدة، تناولنا فيها أوضاع شعبنا، واستمعتُ إليه وهو يتحدّث بشغف عن آمال وطموحات أهلنا السكان الأصليين في هذه الأرض، وعن معاناتهم، كما كنا نتحدّث عن مختلف الأحداث والتطوُّرات على السَّاحة الفلسطينية وعن أوضاع الأسرى، ربطتني علاقة خاصة بقيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه وحتى الآن، والذي كان له بصمتُه في فلسطينية والهوية الوطنية ومقاومة الرواية الصهيونية"؛ إلخ...
أما الأسير وليد دقة فقد كتب "يكفي للكتابة عن أبو سهيلة الإنسان المناضل ما خضناه معًا من التّجربة الاعتقالية، فالسجن كما وصفته الأدبيات الفلسطينية، بوتقة صهر عالي الحرارة، تدخله معادن اجتماعية وفئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني، ولا يبقى من هذه المعادن سوى الذَّهب الوطني والإنساني. غطاس ترك خلال مسيرة اعتقاله أثرًا عميقًا في كل من التقاه، فهو الذي لا يفصل بحكم نشأته وتربيته ونشأته الوطنية بين غطاس السِّياسي وغطّاس الإنسان، استطاع أن يجمع بين التنظير والتجسيد العملي لمواقفه، وربَّما هذا ما قاده إلى السِّجن، كونه أسيرًا لقيم الحرية والعدالة قبل أن يكون أسير سجن، منصهرا عقلا ووجدانا بالقضية الوطنية وقضية الأسرى".
يحوي الكتاب في جزئه الأخير صورًا وملاحق، من بينها صورة مسبحة، كان غطاس قد أهداها إلى وليد دقة أثناء زيارة له وهو عضو كنيست في سجن "هداريم"، وفي السّجن ذاته أهداه الأسير ناصر أبو سرور المسبحة ذاتها التي كان دقة قد أهداها له.
الكتاب مفيد جدا ويطلع القارئ على الحياة الحقيقية داخل السّجن من دون مبالغات ومن دون تقليل من أهمية أي شيء.
صادر عن "المركز العربي" للأبحاث ودراسة السياسات ويقع في 318 صفحة من الحجم الكبير. يحوي في نهايته صورًا وملاحق.