تواجه مدينة القدس المحتلة هذه الأيام فعلا انتقاميا إسرائيليا من نوع مختلف، وإن كان هذا نهجا عاما لسلطة الاحتلال لم تتغير أدواته وأساليبه باضطهاد المقدسيين، إلا أن السلوك يبدو مختلفاً بعد معركة بوابات الأقصى الأخيرة في 14 تموز/ يوليو الماضي، بالميل إلى استخدام سياسة عزل الأحياء والمناطق وحتى العائلات، في محاولة لإخراج القدس من تأثير الفعل الجمعي الشعبوي المقاوم إلى الانكفاء على الذات.
و"السياسة الفردية" كما يسميها الباحث في شؤون القدس د. جمال عمرو، تسعى إلى خلق مشاكل وأزمات في كل حي مقدسي، تختلف عن الأخرى، وكل حي يواجه مصيره بمعزل عما يجاوره أيا كانت تلك الأزمات سواء في هدم المنازل أو طرد العائلات أو الإغلاقات بزعم "دوافع أمنية".
وقال لصحيفة "فلسطين": "هذه المواجهة خفية، وليست علنية وتتم بصمت وهدوء، إذ يقوم الاحتلال بتنفيذ إجراءاته بعد منتصف الليل في إطار هجوم مضاد".
ولا يخفي عمرو أن المقدسيين هنا يفتقدون إلى أمرين في مواجهة سياسة الاحتلال الفردية، وهي المؤازرة الجماهيرية لبعضهم البعض بصف واحد، والثاني عدم وجود وسائل إعلام محلية تنقل ما يجري كما كان خلال معركة بوابات المسجد الأقصى، التي أدى المقدسيون فيها دوراً محورياً بنقل وتوثيق الأحداث بهواتفهم المحمولة، بعد تضييق الاحتلال على وسائل الإعلام المرئية.
حقائق ومعطيات
وأوضح أن الاحتلال يستخدم سياسة الإبعاد الجائر للمرابطين، فبعد أن كان في السابق يبعدهم عن الأقصى لمدة شهر على أبعد تقدير "تتراوح عقوبات الإبعاد بين ثلاثة إلى ستة أشهر، فضلا عن المنع من السفر".
ويرى أن المواجهات الشعبية مثلت نموذجاً ناجحاً حظي بإجماع فلسطيني واهتمام دولي لا يرغب الاحتلال مطلقاً بتكراره في إطار مواجهة شاملة، تكون لها أهداف سامية بالدفاع عن الأراضي الفلسطينية عموماً والمسجد الأقصى على وجه الخصوص.
ويوضح أن سلطات الاحتلال أصدرت أوامر إبعاد بعد الهبة لنحو 82 مقدسيا عرفت هوياتهم، إلا أن الباحث عمرو يعتقد أن التقديرات ربما تشير إلى أعلى من هذا الرقم بسبب كثافة حملات الاعتقالات التي تمت بعد "الهبة" دون أن يتم التعرف على هوية الشبان المبعدين، يضاف إليهم 60 فتاة وسيدة من المرابطات داخل أسوار الأقصى يضعهم الاحتلال على "قائمة سوداء".
ولم تنته إجراءات الاحتلال بعد أحداث 14 تموز، إذ يلفت عمرو إلى أن رئيس حكومة الاحتلال وفي إطار الفعل الانتقامي العدواني على ما شهدته القدس أعلن عن طرح بناء 4800 وحدة استيطانية، شرع في بناء ثلاثة آلاف منها في محيط البلدة القديمة، ومستوطنتي "معاليه أدوميم" و"بسغات زئيف".
ووفقاً لمعطيات رقمية إسرائيلية فقد تضاعف حجم الاستيطان بمدينة القدس خلال ولايتي بنيامين نتنياهو، وتحديدا بين عامي 2009 و2016، حيث بلغت الزيادة في أعداد المستوطنين قرابة 70%، وارتفعت نسبة الأراضي التي بنيت عليها مستوطنات جديدة 60%، خاصة بمناطق الشيخ جراح وبطن الهوى وسلوان.
وبشأن عمليات هدم المنازل، يبين الباحث المقدسي، أن الاحتلال هدم منذ انتهاء الهبة في 28 تموز الماضي، 18 منزلا مقدسيا، ووجه أوامر بالهدم لعشرات البيوت.
وخلال العامين الأخيرين أخلى الاحتلال نحو 60 عائلة فلسطينية من بيوتها في شرقي القدس.
كما لجأ الاحتلال لطريقة انتقامية أخرى من خلال فرض غرامات مالية على المعتقلين المقدسيين الذين اعتقلوا خلال المواجهات الشعبية، بإجبارهم على دفع أجرة التحقيق والطعام والمنام، كما يضيف عمرو، إذ بلغت قيمة الغرامات المفروضة نحو 70 إلى 100 ألف شيقل، مشيراً أن هذه الغرامات تتحول إلى قضايا ضد المقدسيين لعدم قدرتهم على تغطيتها، وبطريقة أو بأخرى يدفعهم ذلك إلى ترك القدس "هروبا من شبح الاعتقال".
المزيد من التحدي والتمسك
"بعد انتصار المقدسيين، ورغم الإجراءات التعسفية للاحتلال بالمدينة، ورغم الواقع الأليم الذي يعيشه المقدسيون إلا أنهم أثبتوا أن لديهم قدرة وقوة على مواجهة الاحتلال، بإيمانهم بحقهم بالمدينة المقدسة" والكلام هذه المرة للباحث في شؤون القدس ناصر الهدمي.
وقال لصحيفة "فلسطين": "مواجهات الأقصى الأخيرة كانت صفعة للاحتلال، لذلك نرى قبضة حديدية في القدس، ورغم أن هذه الإجراءات ضيقت الحياة وفرضت قيودا جديدة، لكنها لن تغير بوصلة المقدسيين".
ويضيف أن هناك إجراءات أخرى نفذها الاحتلال منذ ثلاثة أشهر، منها زيادة أعداد شرطة الاحتلال في القدس، وتكثيف تواجدها داخل الأسواق والأحياء والشوارع في شرقي المدينة "وبطبيعة الحال يرافق ذلك إجراءات قمعية للسكان، فضلا عن التعقيدات الاقتصادية الكبيرة في إجراءات ضرائب الأرونا (الأملاك) ومشاكل تقسيطها، بالإضافة إلى فرض غرامات مرورية باهظة على السائقين المقدسيين، وزيادة أعداد المستوطنين المقتحمين لداخل المسجد الأقصى.
ويستخدم الاحتلال مبدأ فرض المزيد من القوة، وفق الباحث المقدسي، لدفع المقدسيين لرفع الراية البيضاء، والابتعاد عن المسجد الأقصى، مؤكدا أن ما يجري لن يفت من عضد المقدسيين ويجعل الشباب أكثر قرباً من المسجد الأقصى.