حكى لنا الشهيد باسل الأعرج من قبلُ عن قتال النِّيص، وكان يدعو الشباب للعيش مثل النِّيص والقتال كالبرغوث، فالنِّيص كائن وحيد، يعيش وحده، ويبحث وحده، ويقاتل وحده، ولا يتسبب موته بهلاك واحد من بني جنسه!
وفاته -رحمه الله- أن يشرح لنا عن قتال النمس، وأظنّه أشد فتكاً، وأعظم مراوغةً، وأعنف جرأة منه، وأكثر نسكاً، رغم صغر حجمه، وضآلة جسمه.
هو شديد المراوغة رغم قصر أقدامه وطول بدنه، وأكبر فرائسه الحيّات، ولولاه لانتشرت الثعابين في كل غيط (أرض واسعة)، حتى قيل قديمًا إنه لولا النموس لأكلت الثعابين أهل مصر، وهو يناورها بوجهه، ويستدير عليها بسرعة في كرّ وفر متتابعين، حتى يغرز أنيابه في عنقها، ويثقبها ثقبًا مميتًا، ويكفيه لحمها دهرًا.
حتى إن نالته نهشة من حيّة لعينة أو التفّت عليه بعصرتها فإنه يتماوت وتسكن أطرافه حتى تبادر لعضّه ثانية، فينال منها بالخديعة الجريئة، إذ يتخذ من وهم الموت دريئة صيّاد (ما يستتر به) يتخفّى في ظلالها حتى يتمكن منها بأسنانه الثاقبة.
اقرأ أيضًا: مثل البراء وأبي دجانة
اقرأ أيضًا: تجربتي في مراجعة مذكرات الأسير حسن سلامة والدخول في عالمه المعزول!
وأحسن ما فيه أنه إذا كثرت الثعابين في دارك فإنه لن يضطر إلى الأخذ من دواجن حديقتك، وما عليك إلا أن تدلّه على الجحور التي قد تُحجَب عن أنفه الذكيّ الذي يشتمّ فريسته من بُعد إلا إن قَبَعت في جحورها فلم يتحرّك الهواء الناقل لرائحتها وذبذبات زحفها.
والنمس لا يقاتل من يقتات على الثعابين مثله، فلا تجده يقاتل بنات آوى، ولا بنات عرس، ولا القنافذ... ويفتح المجال للتعاون في هذا الصيد المشترك، ولذلك ترى الناس يعتدلون في النظرة إليها جميعاً: "يا طالب الدبس من فم النمس يكفيك شرّ الواوي".
وبلغ من جرأته أنه لا يهاب مقاتلة الأسود ولا الذئاب وإن اجتمعت عليه، ويتجرّد من مشاعره وخوفه عند اللقاء، ولا يفكّر في العاقبة حتى يتحقق له مراده، ويرفع رأسه وسطهم، وقد انخفضت رؤوسهم بالهزيمة.
ومع جرأته وإقدامه فإنه نبيه شديد الحذر، وهو يبدأ هجومه بنظرة من تل مرتفع، فإذا انحدر فتحسّ كأنه يستطلع وراءه كلما تقدّم مسرعاً، ولا يأتيك من الطريق الذي تتوقعه منه. وهو مقاتل بالفطرة، يَسَعُه القتال وحده، والقتال في جماعة، تراه كاللمحة الخاطفة في الليل كما تلمحه في النهار، فلا تعرف متى يحلّ على ديارك.
وإذا حاصرتَه أو أسرتَه فإنه لا يتورع عن مهاجمتك، ويكون شرساً جداً حينها، ولا يبالي أن يجرح نفسه ليتحرر، ويظل في زمجرة غاضبة حتى تفتح له باب المحبس. وهو لا يعتمد على مصدر واحد في غذائه فهو لاحمٌ يأكل اللافقاريات والأسماك والطيور، كما أنه نباتيّ يأكل الفاكهة، ويتفكّه بالبيض.
والنمس يقاتل في الأرض الفضاء المفتوحة، وفي الحظائر والمعسكرات المغلقة، كما يتسلّق ببراعة إلى التلال المرتفعة والحصون المتعالية والطوابق المرتفعة، كما أنه سبّاح ماهر، وفي الجملة فهو متدرّب على كل ظروف القتال وبيئات النضال مهما تغيّرت ألوانها ومنازلها، حتى سُمّي في بعض المواضع بالسالول لتسلله إلى كل موضع.
وإذا أنجز النمس مهمته فإنه لا ينتظر شكر أحدٍ، ولا يهتم لصورةٍ، ولا يترك أثراً له، حتى إنه يجرّ فريسته إلى جحره النائي البعيد، ويترك أفعاله تدلّ على مروره. فإذا رأيتَه قريباً منك وأنت لا تعرفه فلا يخطر على بالك إلا أنه ناسكٌ متعبّدٌ يبحث عن محل يسجد فيه، فإذا رأيتَه فسلّم عليه، وافتح له سبيلاً، ودُلّه على جحر قريب، أو احمله إليه، واحذر أن تدلّه على دجاجك أو حمامك أو صيصانك فإنه لن يغفر لك مهادنتك ومشاغلتَك له عن افتراس الثعابين التي يعشق منازلتها!