فلسطين أون لاين

طلب "الراحة" فنال الشهادة

تقرير عز الدين كنعان.. دماء المتبرع لم تصل أجساد المصابين

...
تشييع الشهيد عز الدين كنعان- أرشيف
جنين - غزة/ يحيى اليعقوبي:

جسدٌ ساكن لا تتحرك منه إلا نبضات قلبه، وعينان تعلقت بحبال الأمل حتى آخر لحظة، عندما كان يستجيب لوالدته في أفضل حالته، يرقد على أسرة المشفى في حالة فقدان للوعي (غيبوبة)، وشللٍ كامل، والتهاب في الرئة.

أبوان لم يفارقا ابنهما طيلة 52 يومًا من الانتظار، لازما غرفة العناية المكثفة، وتعلقا ببصيص أمل أن يعودا به إلى المنزل.

مطلع يوليو/ تموز الماضي خلال عدوان الاحتلال على جنين، توجه عز الدين محمود كنعان (20 عامًا)، وهو من بلدة جبع جنوب جنين للتبرع بالدم لصالح مصابي العدوان الإسرائيلي على جنين، الذين بلغ عددهم 140 مصابًا بينهم 30 حالة خطرة، إضافة إلى استشهاد 13 مواطنًا منهم خمسة أطفال، وقبل وصوله إلى مستشفى جنين الحكومي أُصيب برصاصة قناص بالرأس، مكث خلالها بحالة غيبوبة حتى ارتقى شهيدًا يوم 26 أغسطس/أب الماضي.

بنبرة أضعفها ألم الفقد يقول والده لصحيفة "فلسطين"، وهو يقف في بيت العزاء بعينين محمرتين تتقدان بنيران القهر: "مكث في الغيبوبة 52 يومًا، لم نفارقه في أي يوم، نتج عن الرصاصة التي أصابت الفك والنخاع الشوكي شلل رباعي، والتهابات بالرئة والكلى، ومضاعفات بالجهاز التنفسي، وبكتيريا، وفي آخر أسبوعين عانى من ارتفاع شديد بدرجة الحرارة".

اقرأ أيضاً: بمشاركة مقاومين.. تشييع الشهيد عز الدين كنعان في بلدة جبع جنوب جنين

بصبر يشبِّهه والده بـ "صبر سيدنا أيوب" على الابتلاء والمرض، عاش كنعان مصابًا، ينخر الألم كل جزء من جسده، لم يملك الأبوان سوى التضرع إلى الله، وملازمة غرفة العناية المكثفة، مسلمين أمرهما لله، "تركنا أعمالنا والبيت ومكثنا بالمشفى، تأملنا أن نعود به للمنزل حتى لو مشلولًا أن به أنفاس، فنبقى أبوين ولدينا عاطفة وحنان على أولادنا لا نحب مفارقتهم، إلا أن الله اختار له الشهادة".

يتكئ وجعه على آخر صور لنجله "كانت أيامًا صعبة، ترى ابنك بحالة شلل، وهو الذي كان يعمل بالبناء، ويتميز بالنشاط والحيوية والقوة، لا تستطيع أن تفعل له شيئًا، حاولنا نقله للمستشفيات الإسرائيلية، لكن حالته ووضعه حال دون ذلك".

حديث العيون

خلال 52 يومًا لم يسمع صوت نجله، كانت لغة العيون وسيلة التواصل الوحيدة بينهم، تفوقت الأم على الأب في معرفة ماذا يريد أو يحتاج "عز الدين" حينما كان يفتقد أو يسأل عن بعض إخوته، أو عن حالته الصحية، يخرج الكلام من قلب مثقل بجرح الفقد "أكثر شيء مؤلم أنه كان يطلب نقله إلى مستشفيات الداخل المحتل كي تتحسن حالته، فحاولنا وتواصلنا مع السلطة، فأخبرونا أن تلك المستشفيات لن تقدم أكثر مما تقدمه المستشفيات الفلسطينية في رام الله، وأن وضعه الصحي الخطير لا يتحمل النقل".

في يومه الأخير قبل الإصابة حصل على إجازة من عمله في البناء بالداخل المحتل، وأخبر والده أنه "يريد أن يرتاح" ذلك اليوم، لكنه نال الشهادة، ينتقل والده في حديثه لمحطة العمل التي بدأت قبل عامين قائلًا: "عندما نجح بالتوجيهي، وحصل على معدل 78% أراد السفر للخارج، فلم يتمكن من ذلك، وأراد أن يكون ضابطًا في جامعة الاستقلال، إلا أن مفتاح القبول (80%) حرمه من ذلك، فلم يكن أمامه سوى العمل في قطاع البناء بالداخل المحتل".

على مدار عامين من العمل، والتنقل عبر الحواجز، والاصطفاف في طابور طويل صباحَ مساءَ، تحمل كنعان كثيرًا في سبيل البحث عن لقمة العيش، وأحيانًا كان يمكث في مكان عمله أسبوعًا، ويعود يومًا في الأسبوع لعائلته، علمًا أن لديه شقيقين، وأربع شقيقات، هو الأصغر بين أخوته من النوعين.

لم يصل إلى نهاية الحلم

استطاع كنعان من الأجر الذي حصل عليه وضع قواعد صلبة لحياته، فتمكن بمساعدة والده من شراء قطعة أرض، وبناء قواعد إسمنتية، وكان يطمح أن يبني بيتًا يؤسس لحياته المستقبلية، ويكون أُسرة، ولم يدرِ أنه لن يصل إلى نهاية الحلم، وستبقى الأرض وتلك القواعد شاهدة على طموح شابٍ بسيط، "أقبل على الحياة، فحرمه الاحتلال منها" يقول والده بغصة كبيرة عالقة في حلقه.

لا ينسى والده لحظة خروج نجله لأداء مناسك العمرة مع أمه قبل شهر رمضان الماضي، إذ كان أداء المناسك حلمًا من أحلام والدته استطاع أن يحققه بالسفر للديار الحجازية.

aaaa.jpg
 

تطل صورته على حديث والده "ألح علي كثيرًا بمرافقتهم والسفر، لكني فضلت البقاء في البيت لرعاية الأولاد والاهتمام بشؤونهم في غياب والدتهم، لم أنسَ شعور السعادة والفرح على وجه أمه، وكذلك شعرت بالفخر لأن ابني الذي لم يتجاوز عمره عشرين عامًا كان سبب هذه الفرحة".

بكلمات مليئة بالفخر وصف ابنه "أنه بطل من أبطال فلسطين، يحب وطنه والناس" لم يشغله عمله عن متابعة الأحداث في "جبع" وزيارة المصابين، وكان كريمًا لم يتوانَ عن مساعدة كل من يطلب مساعدته.