كانت المرة الأولى في إبريل سنة 2021، حين نفت وزارة الخارجية الليبية ما نُسب إلى الوزيرة نجلاء المنقوش من تصريح في إيطاليا، تطالب فيه بخروج القوات التركية من ليبيا.
وكانت المرة الثانية في أغسطس/ آب 2023، حين نفت الخارجية الليبية عن الوزيرة المنقوش ما تسرب من أنباء عن لقائها مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، وأن اللقاء كان عرضيًّا، ولم يتطرق لأي قضايا رئيسة.
في المرة الأولى تم توقيف نجلاء المنقوش عن العمل، وتمت إحالتها إلى التحقيق، وخرجت براءة، فهي خريجة الجامعات الأمريكية، وهي الحاصلة على جائزة نساء الشجاعة الدولية من أمريكا سنة 2022، وهذه مؤشرات تدلل على طموح نجلاء المنقوش، وأن اللقاء مع وزير الخارجية الإسرائيلي، لم يكن عرضيًا، وإنما كان مرتبًا، ومرتبطًا بالخديعة السياسية التي تقول: التطبيع مع إسرائيل هو أقصر الطرق للحصول على الشرعية الدولية.
لقد عُقد اللقاء بوساطة وزير الخارجية الإيطالي، وهذا يؤكد أن اللقاء لم يكن بريئًا، وقد تم الترتيب له على أعلى المستويات، شرط أن يظل سريًا، فلماذا فضحت إسرائيل السرية؟ لماذا كشفت عن اللقاء بهذه الفجاجة؟
لقد اعتمد إيلي كوهين منطق الشاعر أبي نواس، الذي قال:
هات اسقنِ الخمر، وقل لي: هي الخمر، ولا تسقنِ السر، إن أمكن الجهر
اقرأ أيضًا: شعب عمر المختار أحيا الأمل بشعوبنا العربية
اقرأ أيضًا: المقاومة تعيد للقضية اعتبارها
وفي الجهر هنا مصلحة إسرائيلية، على المستوى الداخلي، فوزير الخارجية المقرب جدًا من نتنياهو، يروّج لنجاحات الحكومة في هذه الفترة العصبية، لذلك اعتبر اللقاء مع خارجية ليبيا فتحًا جديدًا، ونصرًا مبينًا للخارجية الإسرائيلية، حتى أن كوهين وصف لقاءه مع المنقوش بأنه تاريخي، وأنه خطوة أولى في العلاقة بين إسرائيل وليبيا، وأن حجم ليبيا وموقعها الإستراتيجي يمنحان العلاقات أهمية وإمكانات هائلة لدولة إسرائيل.
الكشف عن اللقاء السري أغضب الشعب الليبي، وهذا الغضب لم يخطر على بال إيلي كوهين، الذي حسب أن الشعوب العربية قد ماتت، وأن ردة فعلها لن يتعدى إطار الدعاء والبكاء، فإذا بالشعب العربي الليبي يفرض معادلة سياسية جديدة، حين خرج في مظاهرات عفوية ضد التطبيع، أحرق خلالها العلم الإسرائيلي، واقتحم مقر وزارة الخارجية، وأغلق آخرون الطرق في العاصمة الليبية طرابلس رفضا للتطبيع، وعلى المستوى الرسمي، ثارت كل الكتل البرلمانية، ضد التطبيع، وطالبت كتلة التوافق في المجلس الأعلى للدولة بإقالة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش من منصبها بعد لقائها مع نظيرها الإسرائيلي، كما طالبت الكتلة باستقالة جماعية للحكومة والمجلس الرئاسي في حال وجد تنسيقًا مسبقًا بشأن اللقاء.
ردة فعل الشعب الليبي على المستوى الشعبي والرسمي ستظل علامة فارقة في تاريخ التطبيع بين الأنظمة العربية وإسرائيل، لقد أوصل الشعب الليبي رسالته إلى الشعوب العربية كلها، بأن التطبيع خيانة، وخروج على القيم السياسية والأخلاقية، كما جاء في الرسالة التي وجهها المجلس الرئاسي الليبي إلى رئيس الحكومة، وقد اعتبر القضية الفلسطينية هي القضية الأم للشعب الليبي، وستظل كذلك.
موقف الشعب الليبي البطل ارتد بالسلب على السياسة الإسرائيلية، ففي الوقت الذي أراد وزير الخارجية كوهين، تحريك المملكة العربية السعودية، وحثها على منافسة ليبيا في سرعة التطبيع، جاءت النتائج على عكس ما تمنى، فالسعودية ستكون أكثر حذرًا، وأكثر يقظة للمخطط الإسرائيلي، ولا سيما بعد أن شاهد الشعب السعودي ردة فعل الشعب الليبي الغاضبة، والتي أفشلت المشروع الإسرائيلي في التسلل إلى الموارد الليبية والعربية.
الشعب الليبي البطل، لا يقل انتماءً للقضية الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني، بل تفوّق الشعب الليبي على كل شعوب المنطقة في انتمائه لوطنه وعروبته ودينه الإسلامي، فكانت بردة فعله السريعة، وخروجه العفوي في مظاهرات جماهيرية، درسًا لكل الشعوب العربية، بأن الحقوق تنتزع بإرادة الشعب، ولا تستجدى من الحاكم.