فلسطين أون لاين

هل كنت جبانًا في تلك الليلة؟

بالرغم من مرور تسع سنوات على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2014، فما تزال مرارة الأيام عالقة في النفس، ففي إحدى ليالي الحرب، وبعد أن أنهيت لقاءً مع فضائية الأقصى، تخيلت نفسي هدفًا للطائرات الإسرائيلية، في تلك الليلة شعرت بالخوف، وسيطر عليَّ الفزع، فتوجهت إلى البيت الذي تسكن فيه أمي، هناك أسند رأسي على الصدر الحنون، واستمد منها القوة والأمن، وأتابع معها وقائع الحرب على غزة بالإذاعة العبرية تارة، وإذاعة الأقصى تارة أخرى.

في تلك الليلة، طال سهري عند أمي، سهرت إلى ما بعد الثانية عشر ليلًا، وحين خرجت من بين يديها، بناء على رغبتها بالنوم، ومشيت في الشارع، تخيلت أن الطائرات الإسرائيلية التي تغطي سماء غزة تراقب خطواتي، فالشوارع خالية، والعتمة تسكن في حارات خان يونس، ولا بشر في الشارع الممتد لمسافة كيلو متر إلا أنا.

وحين اقتربت من بيتي، خفت أكثر، نظرت إليه من بعيد، وتجاهلته، لقد ابتعدت عنه، ومشيت في الجهة المقابلة، فقد تهيأ لي أنه سيقصف، ولا سيما بعد أن وزعت الطائرات الإسرائيلية منشورًا، ذكرت فيه اسم الشهيد حازم فايز أبو شمالة، وقد تصادف في تلك الليلة، أن تعرضت إذاعة الأقصى للاختراق، وراحت تبث رسائل إسرائيلية، تفتخر بأنها قامت بتصفية حازم فايز أبو شمالة، وتتوعد سكان غزة بالمزيد من الدمار والموت.

اقرأ أيضًا: أبو شنب والعطار وأبو شمالة.. ذكريات التضحية والبطولة

اقرأ أيضًا: غزة تتأهب وبقعة الزيت تتسع

بصراحة، لقد سيطر الخوف على كل مفاصلي في تلك الليلة، فابتعدت عن البيت، تخيلته ركامًا، وتخيلت نفسي تحت الأنقاض، فمشيت كيلو مترًا إضافيًا في شارع حي الأمل، باتجاه شارع البحر، مشيت بعد منتصف الليل وحيدًا حتى تعبت، وقتها قررت العودة للبيت، وقررت ألّا أفرض نفسي على أحد الأقارب، فالعدو لا يرحم.

دخلت البيت في تلك الليلة بحذر شديد، كان البيت غارقًا في بحر من الترقب، إنه خالٍ من السكان، فأولادي وبناتي جميعهم تركوا البيت، لقد خافوا من الموت تحت الركام، وقرروا الهجرة إلى بيوت أقاربهم، أمّا أنا، فقد أبت نفسي ترك البيت، كان بداخلي الإصرار على البقاء في البيت، ولي في ذلك تجربة، ففي أثناء انتفاضة الأقصى، شكّل بيتي حاجز صد لسكان حي الأمل، وتعرض للقصف عشرات المرات، وذات مرة، هجر أولادي جميعهم البيت، وبقيت فيه وحيدًا تحت القصف، وبين جدران الخوف.

 في تلك الليلة من عدوان 2014، فتحت باب الشقة والعرق ينزل من جبيني، الحر شديد، والكهرباء مقطوعة، لذلك أخذت فرشة ووضعتها على السطح كالعادة، وفتحت جهاز الكمبيوتر على المواقع الإخبارية، وفتحتُ المذياع على صوت الأقصى.

في تلك اللحظات القاسية، أرعبني صوت الهاتف، الذي لم يتوقف عن الرنين، كان الاتصال يأتيني من أرقم خاصة أحيانًا، وكان الاتصال يأتي من هواتف دولية أحيانًا، وربما كان المتصل أحد الأقارب معزيًا، ولكن التشويش الإسرائيلي على وسائل الإتصال حال بيني وبين سماع الرد على الهاتف، وهذا ما ضاعف خوفي، وأغرقني في الأوهام، أن المتصل هو المخابرات الإسرائيلية.

كان صوت الأقصى في تلك الليلة ينقل أخبار القصف الإسرائيلي لقطاع غزة مباشرة، فمن رفح جنوبًا، وحتى جباليا شمالًا، والقصف الإسرائيلي لم يتوقف، ولم يتوقف صوت الأقصى عن نقل الأخبار مباشرة، وكلها تتحدث عن تدمير البيوت على رأس سكانها، عائلات بأكملها مسحت عن وجه الأرض، وكان الشهداء والجرحى في تلك الليلة بالعشرات، وأنا أنظر حولي فلا أرى بريق الصواريخ، ولا أسمع إلا دوي التفجيرات.

لقد ارتعبت في تلك الليلة، وتخيلت أن كل الطائرات التي تحلق في سماء غزة تنظر إلى بيتي، وتراقبني، وأنني المستهدف بالغارة التالية، لقد جزعت، وقررت بعد الساعة الثانية من منتصف الليل أن أخرج من البيت. 

ولكن إلى أين؟ أين سأذهب بعد منتصف الليل؟ وأي البيوت أوسع لي من بيتي؟

خرجت من البيت مسرعًا، ركبت السيارة، حركتها بهدوء دون إشعال الأنوار، ابتعدت عن البيت قليلًا، وأوقفت السيارة وسط الشارع، فتحت نوافذها، ونمت داخل السيارة حتى الفجر.

صحوت مع آذان الفجر، نظرت إلى البيت، فإذا به واقفٌ، تمر من فوقه الطائرات ولا يكترث لها، إنه لما يزل على قيد الحياة، فلماذا ركبني شيطان الخوف، قلت في نفسي: سأرجع السيارة إلى مكانها، وسأرجع إلى فرشتي على سطح المنزل، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.