ثلاثة من القادة تأتي ذكراهم اليوم بعد أن تم اغتيالهم بواسطة الطائرات الإسرائيلية في ظروف مختلفة، ضمن السياسة العدوانية الإسرائيلية لتحييد القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية، فـ(إسرائيل) تتعقب قيادات المقاومة لحظة بلحظة بغية الإجهاز عليهم حين تكون الظروف السياسية والأمنية مواتية لذلك، وأحيانا تكسر قواعد اللعبة متخطية ذلك إذا ما دعت الضرورة لاتخاذ قرارات التصفية، ويمكن فهم السلوك الإسرائيلي جيدًا في أنه يمارس أقصى وسائل التغطية والإلهاء والخديعة من خلال الإيحاء بأنه غير معني بالتصعيد أو بعمليات الاغتيال حرصًا منه على الهدوء لكنه في ذات الوقت يتأهب للانقضاض على أهداف معينة ومنهم قادة المقاومة.
فهذا العدو لا يمكن أن يتخيل عاقل أنه يمكن أن يحترم تفاهمات أو أن يلتزم معاهدات، فدمويته تطغى على سلوكه، لكن ظروف التزامه أحيانًا تفرضها قوة النيران وخشيته من ردود الفعل، لذلك فإنه وعلى الرغم من وجود كوابح فرضتها (المقاومة) إلا أنه في كثير من الأحيان يغامر، فقد بادر باغتيال القائد إسماعيل أبو شنب في ظروف التهدئة ما شكل صدمة لقيادة الحركة، فتصفية قادة من العيار الثقيل أمثاله ليس من السهل تعويضهم في حركات المقاومة على الرغم من أن الحركة لديها مرونة وقدرة عالية على معالجة الأمر عبر تكليف إخوة آخرين للاضطلاع بنفس المهام، لكنها تعلم أن الرجل كان قائدًا استثنائيًّا في التنظيم.
فهو يملك من الخبرة والقدرة العلمية والتجربة الوطنية ما يجعله يتقدم الصفوف في العمل الوطني، ويؤهله للعب دور بارز في العمل السياسي للحركة، ويجعله قائدا وطنيا وحدويا، الأمر الذي جعل أمر تصفيته وإزاحته من صفوف القيادة يتصدر (القوائم الساخنة) لدى العدو، لتسارع الطائرات الإسرائيلية بقصف سيارته في 21/أغسطس / اب 2003 ما أدى لاستشهاده واثنين من مساعديه، ما اعتبرته الحركة بأنه اختراق لكل الخطوط الحمراء وبمثابة انتهاء للهدنة التي كانت تسري في القطاع.
فحماس أرادت تأديب (إسرائيل) على فعلتها الشنعاء ورفعت سقف التهديد لتعلن كتائب القسام نفيرا عاما في صفوف خلاياها على مستوى فلسطين وتتجهز لتنفيذ إشارة القيادة برد قوي وسريع على الجريمة، إلى جانب مواقف أخرى لباقي فصائل المقاومة والتي توعدت أيضا بالرد وأعلنت انتهاء التهدئة، فالفصائل تدرك جسامة الجريمة وتعلم وزن وتأثير الرجل في صفوف قيادة المقاومة، وتمارس دورها الأخلاقي والوطني في الدفاع عن دماء الشعب الفلسطيني، لكنها أيضا اعتصرت ألما لفقد الرجل صاحب البصمة في إرساء مفاهيم الوحدة والتصالح ومهندس تعدى دوره الفني والأكاديمي ليبدع في هندسة جسور الثقة وبناء الأسس الوطنية للعمل الوحدوي المشترك.
هؤلاء هم قادة الشعب الفلسطيني، (فأبو الحسن) كان يعلم أنه على قوائم التصفية وأن الاحتلال يتعقبه هو وباقي قيادات الحركة لكنه لم يتوارَ عن الأنظار فقضايا شعبنا ومسؤولياته الوطنية كانت تدفعه للتحرك حتى وإن شعر بدنو الأجل، فسيرته كقائد سياسي لا يمكن حصرها في بضع كلمات ولا حاجة لكيل المديح فمحطات حياته الزاخرة تخبر عنه، وموضوعيًّا فإن الرجل مدرسة نضالية متكاملة من الضروري أن تفتح أبوابها أمام الأجيال لتنهل من صفات هذا القائد وتتعلم من سيرته، فكلما مرت السنين برز لنا من أثره خفايا تطرب النفس وتسعد القلب، فما نعلمه الكثير لكن الشهيد المهندس كان هادئا بما يكفي ولا يخبر كثيرًا عما يفعل وبقي فؤاده ممتلئًا بالأسرار التي ذهبت معه.
لكن بقي أثره عظيمًا في أسرته وفيمن عرفه واطلع على سيرته وتقاسم معه الاعتقال والإبعاد، هذه الذكرى الخالدة تزامنت مع ذكرى اغتيال قادة آخرين أطلق عليهم (توأما المقاومة) وهم من أبرز قيادات كتائب القسام الشهيد محمد أبو شمالة والشهيد رائد العطار وكان برفقتهم الشهيد محمد برهوم حيث ارتقى الشهداء الأبطال بعد قصف منزل تواجدوا فيه يوم الخميس 21/8/2014 في معركة العصف المأكول إلى جانب ارتقاء خمسة مواطنين آخرين وإصابة العشرات بصواريخ عدوانية إسرائيلية قاربت الـ12 صاروخًا سوت المنزل بالأرض، حرصًا من العدو على قتلهم وضمان عدم إفلاتهم من الاستهداف هذه المرة.
فتوأما المقاومة لهما سجل حافل بالمطاردات وفشلت عشرات محاولات الملاحقة والاغتيال في السابق، هؤلاء القادة الكبار كانوا يمسكون بخرائط العمليات ويشرفون من قرب على تنفيذها، وهذا ما آلم العدو، فالشواهد كثيرة ومنها عملية براكين الغضب ومحفوظة وحردون وترميد، وقادا معًا معارك قاسية في الفرقان والسجيل، وسجلوا نجاحات استراتيجية في معركة العصف المأكول، ما دفع العدو لنبش الأرض بحثًا عنهم بعد أن جن جنونه من الضربات المتتالية التي أصابت جنوده وثكناته العسكرية.
لكننا نتوقف هنا قليلا لإعطاء التحية أمام الإنجاز العظيم الذي قدمه هؤلاء الأبطال لشعبنا وبالتحديد لأسرانا الذين ينعمون الآن بالحرية بعد أن نجح العطار وأبو شمالة وآخرون ما زالوا في صفوف القيادة بعيدين عن الأضواء في تنفيذ أكبر عملية عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي حملت اسم (الوهم المتبدد)، والتي أذلت الجيش وكسرت رقبة قيادته وألحقت به العار وهي تعلن عن اختطاف الجندي (جلعاد شاليط)، وبقيت ممسكة به وتخفيه بين السماء والأرض في أماكن خاصة ضمن احتياطات وترتيبات أمنية بالغة التعقيد انهارت أمامها منظومة الأمن الإسرائيلي، ليخرج بعدها قيادات المقاومة في لحظة تاريخية برفقة الجندي لإتمام صفقة التبادل، هذه الذكريات لهؤلاء القادة تجعل جباهنا تنحني خجلًا أمام رجال كالجبال تركوا لنا ميراثًا عظيمًا وحلموا يومًا أن جيلًا سيمسك بمفاتيح الأقصى مكبرًا ومهللًا بانتهاء الاحتلال وسقوط المشروع الاستعماري في فلسطين والمنطقة.