فلسطين أون لاين

مظلة النبيّ الأكرم

عندما تكون في البرّيّة أو الصحراء فإن أحب الأوقات إليك ستكون عندما تستظلّ بشجرة باردة الظلال، وتستلقي غافياً، يترنّم لك الطير مغرّداً.

وكان من أحبّ الأشجار التي أحب النزول تحتها شجرة السَّرْح المعمرة الناضرة دائمة الخضرة، التي هي أشبه بالمظلة التي لا تخترقها خيوط الشمس من كثافة أوراقها الصغيرة التي تشبه أوراق الحنّاء، وهي أوراق غير رعوية لا تأكلها الأنعام إلا قليلاً، كما أنها شجرة لا شوك فيها تخشى أذاه كما في سائر الطلحيات من أشجار العضاه الشوكية.

كنت أستند إلى جذعها المغبرّ الأبيض ذي الملمس الناعم، وأروي لرفاق الطريق كيف كان ينزل تحتها سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، فقد نزل بعد غزوة بدر عند شجرة سرح في كثيب بموضع يقال له "سَيَر" بعد مضيق الصفراء، فقسم أنفال المعركة تحتها؛ وورد في الصحيح أن رسول الله كان ينزل تحت سرحة أو سرحات غرب درب الحج النبوي بين المدينة ومكة، قرب محطة الوريثة، وقد وصفها عبد الله بن عمر بن الخطاب بأنها ضخمة عظيمة، انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق كالبنيان، تحته كثُب رملية. 

اقرأ أيضًا: مرة أخرى.. هذه الدراما أخطر!

اقرأ أيضًا: ما بين زيارة الحرم وهدم البيوت!

وورد في الخبر أن ثمة سرحة مباركة في وادي السُّرَر بين أخْشَبَي مِنىَ في مكة، سُرّ تحتها سبعون نبيًّا، أي ولدوا تحتها وقُطِعت سُررهم، أو أنّ الله تعالى سرّهم بتنبُّئهم عندها.

وقد أسِفت حقاً أن هذه الشجرة العظيمة قلّما أراها في رحلاتي لكثرة من يعتدي عليها، وتعويضها صعب لأنها بطيئة النموّ، وتحتاج إلى بيئات خاصة لترتاح إلى التمدد فيها، والتدلّي بعروقها، والإزهار بنوّارها الأبيض الذي يجتذب عسل النحل البرّيّ الجوّال، ولها ثمرة صغيرة مدوّة هلامية لزجة حلوة المذاق في قرون يسمّونها الآء أو الدوالي، ولولا أن رائحة دخان حطبها مزعجة ضارّة إذا تعرّضت للنار، لكانت قد انقرضت منذ دهر طويل، وكانت النسوة قديماً يصنعن من أعوادها الصغيرة أعواد الكحل.

في ظل هذه الشجرة المحبوبة يبترد الهواء المخنوق بالحرّ، ويطيب تحتها النوم ويهنأ، كما يطيب السمر، ولطالما كانت أشجارها علامة لنزول الركبان، وتوقّف القوافل، وحلول الضِّيفان، ومغافلات العاشقين، واستراحة الرعاة والمسافرين والباحثين عن راحة البال والمغامرة البرّيّة.

وهذه الشجرة ذات الزينة مما يتوارثه الناس في مناطق انتشارها، ويعتزّون بها جدًّا لندرتها وراحة ظلّها، ويتخذونها موضعاً للاجتماع في الأفراح والأتراح والمحاكمات وتَنادِي المشاورة، كما أنها من منائر الأرض في ذلك الزمان، وبها تقاس الملكيات والحيازات. 

وكثيراً ما كانت هذه الشجرة مأوى للطيور المستوطنة والمهاجرة، حيث ترى أعشاش النسور والغربان والحدآت في أعلاها تزيدها هيبة وبهاءً، وفي موسم الإثمار تضع فراشات السرح بيوضها على قرون الثمار وتنثرها بانتظام كأنها حبات قمح قائمة. 

ورحم الله أحمد شوقي يوم رثى فناناً عريقاً، فجعله شبيهاً بها:

وتقوَّضَتْ للفنّ أطوَلُ سَرْحةٍ ... يُغدَى إلى أفْيائها ويُراحُ